معنى العقل
الموضوع باختصار ....
سبب تسمية العقل بهذا الاسم، لأننا نعقل (نمسك ونقبض) به الأشياء. فالعقل أداة لمسك وقبض ونيل وأخذ الأشياء، وكذلك اليد أداة لمسك وقبض ونيل وأخذ الأشياء. والفرق بين اليد والعقل، أن اليد تعقل (تقبض وتمسك وتتناول وتأخذ) الأشياء المادية المحسوسة (كالتفاحة أو القلم مثلاً)، بينما العقل يمسك (يعقل ويقبض ويتناول ويأخذ) الأشياء المعنوية (مثل الأفكار والكلام والمعاني والتصورات، ...). فالعقل ماسك وآخذ وقابض للأشياء كاليد، ومن لا عقل له (لا يستطيع أن يأخذ الأفكار والمعاني)، كمن لا يد له (لا يستطيع أن يأخذ الأشياء المادية).
اشتقاق العقل ومعناه حسب المعاجم
اللسان: سُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في
المَهالِك أَي يَحْبِسه/ وقيل العاقِلُ الذي
يَحْبِس نفسه
النهاية في غريب الحديث: العقل يمنع الإنسان مِن الفساد...
المَانع للإنسان من
التَّرَدِّي والسُّقوط بالعَقْل المانع له من أفعالِ السُّوء
تهذيب اللغة : سمي عقلُ الإنسان ... عقلا لأنه يعقله، أي يمنعه
من التورط في
الهَلَكة، كما يعقل العقالُ البعيرَ عن ركوب رأسه
تفسير البغوي: العقل مأخوذ من عقال الدابة، وهو ما يشد به ركبة البعير فيمنعه من
الشرود، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود
تفسير السمعاني : العقل يمنع صاحبه من التمرد
تفسير البيضاوي : أفلا عقل لكم يمنعكم ... والعقل في الأصل الحبس ... لأنه
يحبسه
عما يقبح ويعقله
تفسير البحر المحيط : أفلا تعقلون : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال
المردية بكم .. (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) أي : هذا كلام من لا يعقل، إذ
العقل يمنع من ذلك
تفسير الالوسي: العقل في الأصل المنع والإمساك ، ... لأنه
يحبس عن تعاطي ما
يقبح ... والمعنى أفلا عقل لكم يمنعكم ...
معجم الفروق اللغوية للعسكري : قال بعض المحققين: العقل ...مشتق من عقل البعير
عقلا إذا شده، سمي به، لانه يمنع صاحبه عن ارتكاب مالا ينبغي، مثل العقال
تاج العروس : واشتقاقه من العقل، وهو المنع لمنعه صاحبه
مما لا يليق
وإذن حسب هذا الفهم فإن العقل (يَعْقِلُ) الإنسانَ. أي أن العقل هو الفاعل
(العاقل المانع الحابس)، والإنسان هو المفعول
(المعقول الممنوع المحبوس). وقصدوا
بذلك أن العاقل هو الذي يعقل نفسه : يمسكها ويحبسها ويمنعها
[الأصمعي ، العَقْل
- الإمْساك عن القَبِيح وقَصْر النَّفْس وحَبْسها
على الحَسَن/ المخصص].
وقيل مثله حول اشتقاق كلمة (حجر) اللغوي: [وسمي العقل
حجْراً ، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح/ زاد
المسير]،
[إِنه لَذُو حِجْر إِذا كَانَ
قَاهِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لَهَا كأَنه
أُخذَ مِنْ قَوْلِكَ حَجَرْتُ عَلَى الرَّجُلِ/اللسان]،
[وسمي العقل حجرًا، ولكونه
يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح/
المطلع على ألفاظ المقنع].
وإذن حسب هذا الفهم فإن الحجر يحجر الإنسانَ. أي أن الحجر هو الفاعل
(الحاجر)،
والإنسان هو المفعول (المحجور). أو أن الإنسان هو الفاعل والمفعول
(يحجر الإنسان
نفسه)..
الاشتقاق والمعنى الأصح للعقل
الفروق اللغوية للعسكري: وَقَالَ بَعضهم الْعقل الْحِفْظ يُقَال عقلت دراهمي أَي
حَفظتهَا ... يُقَال للمخاطب أَعقل مَا يُقَال لَك أَي احصر مَعْرفَته لِئَلَّا
يذهب عَنْك
البحر المحيط في أصول الفقه -بدر الدين الزركشي: الْعَقْلُ آلَةٌ تُدْرَكُ بها
الْأَشْيَاءُ
أدب الدنيا والدين- الماوردي : وقال آخرون: العقل هو المدرك
للأشياء على ما هي
عليه من حقائق المعنى.
العين: والمَعْقُولُ : ما تَعْقِلُه في فُؤادِك/ تاج العروس: وقيل : المَعْقول :
ما تَعْقِلُه بقَلْبِك .
مقاييس اللغة لابن فارس: ويقولون: فلانٌ عَقُولٌ للحديث، لا يفلت الحديث سَمْعُه
تاج العروس : عقل الشيء يعقله عقلا: فهمه
تفسير الطبري : {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73] يَقُولُ: لِتَعْقِلُوا
مَعَانِيهِ
تفسير الزمخشري : لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه وتحيطوا
بمعانيه
إذا قلنا أن العقل يعقل الإنسانَ، فالإنسان إذن معقول. فهل خلق الله لنا العقل
لكي يعقلنا نحن فنكون معقولين؟ أم لنعقل به الأشياء فنكون عاقلين لها؟
لنبدأ بقول لا يختلف عليه اثنان وهو أن الإنسان هو الذي يَعْقِلُ وهو العاقل. ثم
نسأل هل الإنسان عاقل يعقل، لأنه يَعْقِلُ نفسَه، أم لأنه
يَعْقِلُ الأشياءَ؟
ولكي نجيب على هذا السؤال لنرجع إلى كتاب الله:ْ
يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ (75) سورة البقرة
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
شَيْئاً (170) سورة البقرة
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلَّا
الْعَالِمُونَ (43) سورة العنكبوت
نلاحظ في هذه الآيات أن الإنسان لا يَعْقِلُ نفسَه كما تقول المعاجم، ولكن
الإنسان يَعْقِلُ الأمورَ والأشياءَ. فالآية الأولى تقول أن المحرّفين عقلوا
كلامَ الله، والثانية: أن آباء المقلّدين لا يعقلون
شيئاً، والثالثة: أن
العالمين يعقلون الأمثالَ. فالعاقل هو الإنسان،
والمعقول هو (الأمور والأشياء
والأفكار).
عبارة (الإنسان عقل الأشياء) هي أكثر استعمالاً بكثير من عبارة (الإنسان عقل
نفسه) التي لا تكاد تُستعمل. فعندما نقول (عَقَلَ الإنسانُ
الأمرَ أو الشيءَ) أي
أن الإنسان استوعب الأمر ووعاه وقبضه
[عقل المصدِّقُ الصدقة إذا
قبضَها. ...
يعقلها المصدق، أي يقبضها/
تهذيب اللغة]
ومسكه واحتضنه وحفظه واحتواه وأحاطه
وناله وأدركه [عَقَلَ: عَقَل عقلاً: أدرك الأشياء على
حقيقتها، وعقل الغلامُ: أدرك وميَّزَ/
العامي الفصيح من إصدارات مجمع اللغة]
وحازه وحصل عليه. فالعقل من
معنى الاستيعاب والوعي والاحتواء والإحاطة والاحتضان والحفظ والنيل والإدراك
والحوز الذي يقوم به الإنسانُ ذو العقل.
فصاحب العقل الذي هو الإنسان هو عاقل (حافظ ماسك قابض حاوي واعي واعب نائل حائز
آخذ حابس) للأشياء التي هي المعاني والأفكار، وليس الإنسان معقولاً
(ممسوكاً
محبوساً مقبوضاً محتوى مأخوذاً). فالإنسان عاقل وليس معقولاً.
فعقل الإنسان
(وعاء) يعقل (أي يُمْسِك ويقبض ويحوي ويحفظ ويجمع) الإنسانُ به أو فيه ما يشاء
من أمور (أي يفهمها ويستوعبها ويحبسها في وعاء العقل).
وعندما يخاطب الله الناس فيقول (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) كما في آيات عديدة
[{
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة، / { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (65) سورة آل
عمران/ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } (32) سورة الأنعام/ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (16)
سورة يونس/ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (51) سورة هود/ { أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10)
سورة الأنبياء/ { أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (67) سورة الأنبياء/ { أَفَلَا
تَعْقِلُونَ} (138) سورة الصافات] ...
فليس المعنى: ألا تعقلون أنفسَكم وتمسكونها وتمنعونها وتحبسونها، كما فسّره بعض
المفسرين [وقد فسروا قوله : أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بأقوال : أفلا تعقلون : ... ،
أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، ...أو أفلا
تمتنعون من المعاصي/
تفسير البحر المحيط]،
[قوله تعالى : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا
تمنعون
أنفسَكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل المنع، ومنه عقال
البعير لأنه يمنع عن الحركة/ الجامع
لأحكام القرآن - القرطبي]
وإنما بمعنى: ألا تعون، ألا تستوعبون، ألا تدركون، ألا تحيطون، ألا تمسكون
المعنى ...الخ. فهذا ما قصده العرب الأقدمون من كلمة
عقل (وعاء، مخزن، حواء،
مجمع، ...) للأشياء (الكلام والأفكار والمعاني والتصورات، ..)، وليس مثل حبل
(عقال) يشد ويربط الإنسانَ (يعقله).
والآية الكريمة [{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ
يَعْقِلُونَ}
(42) سورة يونس]، تشير إلى أن الذي لا يعقل، لا يستقبل الكلام ومعناه ولا يجمعه،
وإذن العقل تلقي ونيل وأخذ ومسك ولقط. وكذلك [{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف/ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) سورة الزخرف]، أي لكي
تجمعوا
وتمسكوا وتلقفوا وتأخذوا وتلقطوا معاني القرآن. فعقل الإنسان من المسك ولكن مسك
المعاني والأفكار.
والإنسان هو الحاجر وليس المحجور. الإنسان هو الذي يَحْجِرُ وليس الذي يُحْجَر.
وقوله تعالى [{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} (5) سورة الفجر]، أي
لذي
وعاء ومخزن يحجر أي يحضن [حَجْرُ الإِنسان
وحِجْرُه، .. حِضْنُه. .. يقال: حَجْرُ المرأَة وحِجْرُها: حِضْنُها/اللسان] و ويحوي فيه المعنى. فالعقل (الحجر)
كأنه حجرة (غرفة) تحوي الشيء.
فرق بين عَقَلَ الإنسانُ الشيءَ وبين عَقَلَ العقالُ البعيرَ
بعد أن فهمنا أن الإنسان هو الذي يمسك ويقبض الأفكار بعقله، هل نقول أن الإنسان (من خلال عقله) يشدّ ويقيّد ويوثق ويمنع الأفكار؟ ليس تماماً. فالعقل (الإدراك والاحتواء والاستيعاب والإحاطة والنيل) ليس تماماَ كمعنى عقل الدابة (ربطها، شدّها، تقييدها)، فليس معنى (عقلَ التلميذُ الدرسَ) أنه ربط الدرسَ وقيّده ومنعه وشدّه وأوثقه، ولكن معنى عقل التلميذ الدرس أي قبضه ومسكه وأدركه وأخذه والتقطه والتقفه وحازه وناله وحصل عليه، أي وعاه واستوعبه وفهمه وفقهه وأدركه. فعقل الإنسان عندما يعقل الشيء (اللا حسي) ليس تماماً كعقال البعير (يعقل البعير المحسوس). .
كلمات شبيهة من لفظ عقل ومعناه
كلمة أكل، قد تكون من نفس الأصل اللغوي لكلمة
عقل (كلاهما بمعنى أخذ واستوعب)
ولكن كلمة أكل تخصصت في إدخال الطعام للبطن، وكلمة عقل تخصصت في إدخال المعاني
والتصورات (إلى المخ والفؤاد). وهناك كلمة
عكل [القاموس: عَكَلَهُ .. جَمَعَه/
اللسان: عَكَلَ الشيءَ ... جَمَعَه/ المخصص - ابن سيده : عكلْتُ الشيءَ ...
جمعته] قد تكون من نفس أصل عقل [اللسان: يُعْقَل بحبل، واسمُ ذلك الحبل
العِكَالُ. وإِبِلٌ مَعْكُولة أي: مَعْقُولة / المحيط في اللغة عَكَلْتُ
الناقَةَ: عَقَلْتَها].
وهناك كلمة بعيدة اللفظ قريبة المعنى وهي كلمة (فهم) التي قد تكون من نفس اصل
كلمة (فم). فكأن الفهم لاستيعاب المعنى، وأما الفم لاستيعاب الطعام. وهذا مثل
(عقل وأكل). وربما مثل ذلك كلمة لقم التي لاستيعاب الطعام أو المعنى
[وألقمته
أذني فصب فيها كلاما ... وتلقيم الحجة:
تلقينها/ تاج العروس]. فعقل الإنسان مثل
ذلك لاستيعاب المعاني (مسكها ولقطها ولقفها)، كما قد يستعمل جذر عقل لأمور مادية
مثل [وَيُقَال اعقل شَاتك إِذا حبستها/ماهية
العقل -المحاسبي].
العقل وعاء، وكذلك الظرف الوعاء والكيس وعاء، ولذلك استعمل
الظرف والكياسة بمعنى
يشبه العقل [[الزاهر في معاني كلمات الناس : الكَيِّس: العاقل، والكَيْس: العقل.
الصحاح للجوهري: الظَرْفُ: الوِعاءُ. .. والظَرفُ: الكياسَةُ/ العباب الزاخر -
الصاغاني : والظَّرْفُ: الكياسة، ... وأهل اليمن يُسَمُّون الحاذق بالشيء
ظَريفاً... وقال صاحب العين: الظَّرْفُ البَرَاعَةُ وذكاء القلب/ تاج العروس:
الظَّرِيف : مُشْتَقٌّ من الظَّرْفِ، وهو الوِعاءُ، كأَنَّه جعَل الظَّرِيفَ
وِعاءً للأَدَبِ ومَكارمِ الأَخْلاقِ]
جذر عقل لغير عقل الإنسان
العقل المسك والاحتواء فمثلاً كلمة معقلة [(تاج العروس: سميت معقلة لأنها تمسك الماء/ تهذيب اللغة: سمِّيت مَعْقُلة لإمساكها المَاء). وهي باللهجات (عُقْلة): (تكملة المعاجم العربية : عُقْلَة: ما يعقل الماء ويحبسه ويمنعه أن يسيل)] لأنها تمسك الماء وتحويه (كذلك عقل الإنسان يعقل المعنى أي يمسكه ويستوعبه) والاعتقال المسك والأخذ (كذلك عقل الإنسان كأنه يعتقل المعنى أي يمسكه). (ونخلة لا تَعْقِلُ الإبار: أي لا تقبله/ تاج العروس) مثل فلان لا يعقل الفكرة أي لم يستطع أن يمسكها ويأخذها (لم يقبلها عقله). ومثل جذر عقل، جذر مسك استعمل مع الأرض لأنها تمسك الماء (المَسَك والمَسَاك: الموضع الذي يمسك الماء/اللسان) واستعمل مع عقل الإنسان لأنه يمسك الفكرة [المُسكَةُ: العَقْلُ الوافِر والرَأي/تاج العروس].
حامد العولقي