نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

كأنما يصّعّد في السماء

الموضوع باختصار ....

 صدر الكافر ضيق لا يتسع للإسلام، وهذا من الناحية النفسية المعنوية. ولكي نفهم ذلك، ضرب الله مثلاً حسياً مادياً، أن هذا مثل حال الذي يصعد بقدميه في المرتفعات (كالجبل مثلاً)، فيشعر بضيق صدره (ينقطع نفسه فلا يستطيع التنفس إلا بصعوبة) بسبب التعب والإرهاق والجهد الشاق الذي بذله في الصعود على قدميه.
كذلك نحن قد نقول للشخص العصبي السريع الغضب أنت ضيق الصدر، ولو شبهنا ذلك مادياً وجسمياً لقلنا له صدرك (في ضيقه النفسي) مثل صدر الذي ركض مسافة طويلة دون توقف.




وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ (125) الأنعام



تفاسير القدماء

يبدو أن قدماء المفسرين فهموا معنى كلمة (السماء) بالآية، أنها حيث السُحُب والكواكب والطيور. فالذي يُفهم (بشكل تقريبي) من تفاسيرهم المتنوعة: كأن الكافر (عندما دعي إلى الإسلام)، ضاقت عليه جميع الجهات الأربع (=ضاقت عليه الأرض) فلم تبق أمامه إلا جهة واحدة جهة السماء [ضاق عَلَيْهِ المذهب فلم يَجد إِلا أَنْ يَصعد فِي السماء/ معاني القرآن للفراء] فكأنه يتمنى أن يرتفع ويحلق ويطير في الهواء. ومثله قيل أنه أراد الصعود في السماء (هرباً وتباعداً وتكبراً) [{كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} نبوة من الْحِكْمَة، وفرارا من الْقُرْآن/ تفسير السمعاني]. وقيل أن عدم استطاعة الكافر أن يسلم (أو صعوبته وثقله عليه)، مثل عدم استطاعة الإنسان أن يبلغ السماء (أو صعوبة ذلك وثقله عليه). وفي كل هذه التفاسير لم ير أصحابها أن (الصعود في السماء) سبّب الاختناق وضيق النَفَس. كما يبدو أنهم رأوا أن (ضيق صدر الكافر) هو الذي سبّب (رغبته في الصعود للفضاء)، فكأنهم قلبوا المعنى (المفروض أن التصعد في السماء هو الذي يسبب ضيق الصدر، وليس العكس). فقالوا الكافر بسبب ضيق صدره (عن الإيمان)، كأنه لم يعد يحتمل البقاء على الأرض (= الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء).



التفسير الأقرب

علينا أن نسأل أنفسنا، ما هدف القرآن من هذا التشبيه في العبارة [كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ]؟ الجواب البسيط هو: لكي نفهم العبارة قبلها [يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا]. وإذن لابد أن التشبيه أو المثال (التصعد في السماء)، فيه أيضاً المعنى الذي في الأصل (الصدر الضيق الحرج). فكأن الآية تقول: ضاق صدر فلان بسبب كذا (= الإسلام والإيمان)، كما يضيق صدره بسبب كذا (= التصعد في السماء). فالداعي لهذا التشبيه (التصعد في السماء)، هو أن الفكرة الأصلية وهي ضيق الصدر عن قبول الإسلام (لدى الكافر)، قد لا تتضح لبعض الناس. فجاء التشبيه (التصعد في السماء) ليوضّح الفكرة الأصلية: أن هذا الأمر (أي ضيق صدر الكافر عن قبول الإسلام)، مثل ضيق الصدر (بعض الأحيان) عن قبول الهواء (التنفس). أو لنقل: اختناق صدر الكافر عن الإسلام، مثل اختناق صدره عن الهواء.



معنى يصّعّد في السماء مثل يصعد الجبل على قدميه

صدر الكافر ضيق لا يتسع للإسلام، وهذا من الناحية النفسية المعنوية. ولكي نفهم ذلك، ضرب الله مثلاً حسياً مادياً، أن هذا مثل حال الذي يصعد بقدميه في المرتفعات (كالجبل مثلاً)، فيشعر بضيق صدره (ينقطع نفسه فلا يستطيع التنفس إلا بصعوبة) بسبب التعب والإرهاق والجهد الشاق الذي بذله في الصعود على قدميه. وجاءت قراءة (يصّعّد)، لتفيد أن الصعود (على الأقدام في الجبل مثلاً) يكون شاقاُ صعباً مرهقاً وعلى مراحل وببطء ولا يكون بسهولة دفعة واحدة.
كذلك نحن قد نقول للشخص العصبي السريع الغضب أنت ضيق الصدر. ولو شبهنا ذلك مادياً وجسمياً، لقلنا له صدرك (في ضيقه النفسي) مثل صدر الذي ركض مسافة طويلة دون توقف.
فالفهم الأقرب أن الآية تشبّه وتمثّل (ضيق صدر الكافر عن الإيمان) معنوياً ونفسياً، كأنه مثل ضيق صدره (جسمياً ومادياً وحسياً) إذا تصعّد في السماء (الضيق النفسي لصدر الكافر، مثاله: الضيق المادي لصدره الذي سبّبه التصعد). فالآية نفهم منها أن تصعد الإنسان في السماء هو الذي سبب الضيق (في الصدر، أي في عملية التنفس). بينما أحد تفسير القدماء يقول العكس (أي أن ضيق الصدر وهو في الأرض، هو الذي تسبب في جعل صاحبه يتمنى أن يصعّد في السماء. وكأن الكافر عندهم اختنق على الأرض فتمنى أن يطير).
وأما المعاصرون فأدرك كثير منهم المعنى الصحيح (مع شطط بسيط سبّبه انبهارهم بالعلم الحديث). فقد ربط كثير منهم بين (ضيق صدر الكافر عن الإيمان) وبين (ضيق صدر الإنسان إذا طار عالياً في الجو). فقالوا أن المعنى المقصود بالآية مثل إذا حلّق الإنسان بطائرة أو صاروخ في طبقات الجو العليا (بعيداً فوق السحاب وأعلى من أعظم الجبال)، فإنه يعاني من ضيق التنفس (فسروه تفسيرا علميا حديثا وهو أن الأوكسجين يقل وينقص كلما ارتفعنا في طبقات الجو العليا). فهم على كل حال، علموا التشبيه (ضيق صدر الكافر عن الإيمان = ضيق صدر الإنسان عن التنفس فوق السحاب).
وأستغربُ من عدم ذكر القدماء لأمر ظننته في الأصل بسيطاً واضحاً لديهم. فظننت أن معنى (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) هو أمر معهود معروف جليّ عند القدماء خاصة: وهو الصعود (على القدمين) إلى الأعلى (في السماء). وهذا الصعود في السماء (على الأقدام) يعرفه القدماء ويدركونه جيداً، مثل صعود أية مرتفعات: كصعود الجبال والعقبات والسلالم والدرج وطوابق المنزل العالي (أو الصعود على القدمين إلى سطح البيت) وصعود الحرس والجنود إلى الأبراج أو صعود مهاجمي القلاع العالية إليها بالسلالم والحبال أو تسلق النخل والأشجار العالية بالأرجل والأيدي (أو مع الاستعانة بالحبال) أو تسلق الحبال الطويلة لأغراض مختلفة. فكل هذه الأمور (التصعد في السماء) معروفة لكل الناس قديماً في سلمهم وحربهم.
كل هذه الأمور مارسها القدماء وجربوها أو رأوا غيرهم يفعلها أو لابد أن أحدهم قام بها ولو مرة في حياته، فوجد انقطاع نَفَسه (ضيق صدره) أو نَفَس من فعل ذلك، بسبب الجهد الذي بذله في الصعود.
فالقرآن ضرب مثلاً بسيطاً واقعياً معروفاً، حيث يشبه الأمر المعنوي النفسي (ضيق صدر الكافر عن قبول الإسلام) بأمر مادي حسي وهو ضيق نَفَس الصاعد (على قدميه) في الأعالي. فكلمة السماء يبدو أن القرآن قصد بها كل مرتفع ترتفع عليه بقدميك (جبل، عقبة، درج، سلم، طوابق المنزل، سطح البيت، شجرة عالية، منارة، مأذنة، صواري السفن، ...)، فهذا أمر معروف جداً. وإذا قام أي إنسان بمثل هذا الصعود (على الأقدام) سيشعر بانقطاع نفسه (ضيق صدره وكثرة تنفسه وزيادة خفقان قلبه). وطبعاً نعلم أن الأوكسجين متوفر جداً والضغط الجوي مناسب جدا، فنحن لم نرتفع أو نطير إلى طبقات الجو العليا، وإنما فقط علونا وصعدنا جبلاً أو في العادة نصعد طابقي منزل أو بضعة طوابق. فكلنا يدرك أن انقطاع النَفَس وضيق الصدر سببه التعب والجهد الذي بذلناه في الطلوع (وليس نقص الأوكسجين من حولنا).
وهذا يمكن أن نشبهه بالفرق بين نَفَس الماشي ونَفَس الراكض (الذي كلما زاد عدوه كلما زاد انقطاع نَفَسه). أو بالفرق بين نَفَس المستريح المطمئن (الذي لا يبذل أي جهد عضلي) ونَفَس العامل الناصب الشاقي الذي يحمل وينقل الأشياء الثقيلة دون أن يصعد (وهو على نفس المستوى الأرضي حيث يوجد المستريح). أو كالذي يمتح ويجذب الدلاء الثقيلة من أسفل البئر. أو الذي يسبح مسافة ليست قليلة في الماء. أو الذي يتصارع أو يقاوم أو يجاذب (لزمن غير قليل) .. الخ. فالسبب في كل هذه الحالات (سبب ضيق التنفس) هو التعب والجهد المبذول، وليس السبب قلة الأوكسجين حول الذي يتعب (كمية الأوكسجين واحدة للمستريح وللناصب العامل، لأنهما في نفس المكان). فالسبب في ضيق الصدر (انقطاع النَفَس) في كل الحالات السابقة هو الجهد والعمل الشاق وليس الارتفاع.
ولكن القرآن ذكر فقط أحد أسباب انقطاع النَفَس وهو الجهد المبذول والتعب الذي نشعر به عند صعود أي مرتفع (على الأقدام). ولم يرد القرآن تحديد ذلك المرتفع، لأن المرتفعات متنوعة ومتعددة، فعبر عن الصعود (في المرتفعات المختلفة) بكلمة شاملة وهي الصعود (في السماء).
ولا أستغرب من المعاصرين، إذ انبهروا بالعلم الحديث وأغراهم جداً، فأرادوا جر القرآن لما اكتشفه العلم، بينما لا يريد القرآن ما أرادوا. ولكني أستغرب من القدماء الذين لم يذكروا هذا المعنى الواضح المعروف المشهور لديهم (صعود الناس المرتفعات المختلفة على أقدامهم وضيق الصدر وانقطاع النفس بسبب ذلك)، وكأن كلمة السماء في هذه الآية لم يفهموها إلا بمعنى حيث تكون الطيور أو حيث السحاب والكواكب. بينما في آيات أخرى فهم بعضهم السماء بمعنى ذكرته المعاجم كما سنرى.



كلمة السماء قد تأتي بمعنى علو وارتفاع (يتواجد فيه الإنسان عادة أو يستطيع)

قال ابن عطية في تفسيره [قال أبو علي: ولم يرد السماء المظلة بعينها، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود: الطويل في غير سماء، يريد في غير ارتفاع صعدا].
وكذلك كلمة السماء في هذه الآية لا تعني حيث الكواكب [كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) إبراهيم]. فمن الواضح أن معنى (السماء) في الآية هو حيث (أعالي) النخلة أو الشجرة.
كما فسر بعض العلماء كلمة السماء بالآية [فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ (15) الحج]، أن معنى (السماء) هو حيث (سقف البيت).
وأما معاجم اللغة فبينت معاني إضافية لكلمة سماء مثل: (أعلى البيت)، (سقف البيت)، (كل سقف)، (كل عال مطل)، (ظهر الفرس)، (أعلى النعل)، (رواق البيت)، (أعلى كل شيء). كما استعمل العلماء عبارة (في السماء) لوصف ارتفاعات لا تتعدى الأمتار.
وذكر بعض العلماء هذا المعنى الواضح البسيط الذي تقصده الآية. فلعل من القدماء: ابن عطية [وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها الهواء]. ومثله ندرة من المعاصرين.


 

الخلاصة

معنى الآية ببساطة، أن الإنسان (الذي يختار الكفر ويصر عليه)، يجعل الله صدره (بالمعنى المعنوي النفسي) ضيقاً حرجاً (لا يتسع للإسلام)، مثلما يضيق صدره (بالمعنى المادي الحسي) حين يصعد المرتفعات الشاقة على قدميه. فالآية ببساطة توضح لنا كيف يضيق صدر الكافر نفسياً ومعنوياً عن الإسلام، من خلال ما نشعر به حسياً وجسدياً عندما تضيق صدورنا أثناء صعود المرتفعات المتعبة على أقدامنا.



حامد العولقي 


نسخة pdf أكثر تفصيلاً لموضوع كأنما يصّعّد في السماء