نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا

الموضوع باختصار ....

أراد موسى (وهو بعد في مصر)، الوصول إلى منطقة (مجمع البحرين)، حيث يختلط ماء النهر (النيل) مع ماء البحر (المتوسط). سار موسى بصحبة فتاه الذي كان معه حوت (سمكة) للغداء. وفي أثناء الرحلة ودون علم موسى، أفلت الحوتُ إلى الماء. فرأى الفتى الحوتَ يسبح على سطح الماء ظاهراً للعيان (سارباً)، فتعجب أن الحوت لايغوص. وبعد مدة خلال الرحلة طلب موسى الغداء، فأخبره الفتى بحكاية الحوت. فعلم موسى أنه قد وصل (دون أن يشعر) لموضع اختلاط المائين (النيل والمتوسط = مجمع البحرين) حيث أفلت الحوت. فحوتهما سمكة نهرية لا تتحمل الماء المالح، وحيث هربت السمكة كان الماء خليطاً (عذباً ومالحاً). ولذلك ظلت السمكة (وهي تريد أن تعود إلى النهر) تسبح ظاهرة (ساربة) على وجه الماء (لأن طبقة الماء العذب تطفو فوق طبقة الماء الملح)، وذلك لتتجنب السمكة النهرية الغوص فلا تتعرض للملوحة التي بالأسفل.


قبل كل شيء، هذا مجرد احتمال رأيته وقد يكون خطأ، فإن صح فالحمد لله وإن كان خطأ فأدعو الله أن يهديني وكل باحث لأقرب من هذا رشداً.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) الكهف

كما أوضحنا في موضوع سابق بعنوان (مجمع البحرين ملتقى النيل والبحر المتوسط) أن مجمع البحرين هو حيث تجتمع (تختلط) مياه بحر النيل مع مياه البحر المتوسط. واجتماع أو اختلاط الماء العذب للنيل والماء المالح للبحر المتوسط، ليس بالضرورة أن يحدث فقط عند ساحل البحر المتوسط (مصبات النهر في البحر)، بل يمكن أن يحدث قبل بلوغ الساحل بمسافة (حسب امتداد ماء البحر المالح داخل سهول الدلتا المنخفضة) كما في الصورة:

مجمع 

وموسى قد عزم أن يستمر في الرحلة شمالاً بمحاذاة النيل حتى يصل إلى موضع يكون فيه ماء النيل مختلطاً بماء البحر المتوسط. ولكن كيف سيعرف موسى أنه قد وصل لمجمع البحرين إذا كان ساحل البحر المتوسط لا يزال خارج مدى البصر؟ والجواب: سيُعرف المجمع بالصدفة من خلال الحوت (السمكة) الذي بحوزتهم.

موسى وفتاه كانوا قد وصلوا إلى الموضع المبتغى دون أن يشعروا (وهو موضع الصخرة). فعند الصخرة التي أوى إليها موسى وفتاه ليستريحا بعض الوقت من السفر، كان الماء العذب هناك يختلط بالماء المالح، وإذن وصل موسى (دون علمه) إلى منطقة مجمع البحرين (حيث يجتمع البحر العذب وهو النيل مع البحر الملح وهو المتوسط).

وفي هذا الوقت وهما بالمجمع، غفل موسى وفتاه عن الحوت (نسيا السمكة فأهملاها ولم يرقباها) الذي استطاع بلوغ الماء ثم انطلق سابحاً فيه [فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا]

ملاحظة: [نَسِيَا حُوتَهُمَا/ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ]: لا ينبغي أن نفهم أن موسى وفتاه عندما استأنفا الرحلة بعد الصخرة، أنهما نسيا أن يأخذا الحوت معهما. فالفتى أصلاً قبل مغادرته الصخرة كان يعلم أنه قد فقد الحوت. فالمقصود من [نَسِيَا حُوتَهُمَا] هو أن موسى وخاصة فتاه عندما كانا عند الصخرة غفلا عن الحوت وأهملاه ولم ينتبها له (لم يرقباه بل تركاه وشأنه). والحوت لم يمت بعد، ووجد فرصة كافية (ربما استغرقت بضع دقائق أو أكثر) أن يحاول أن يعود إلى الماء. كل هذا والفتى غافل (ناسي) غير منتبه، ربما لأنه وضع السلة (التي فيها الحوت) بعيداً عن نظره ومراقبته وانشغل باستراحته أو بشيء آخر. ولو وضع الفتى السلة أمامه أو كان حريصاً على حفظ الحوت، لرأى الحوت وهو يحاول الفرار، ولأعاده للسلة على الفور. فهذا معنى [فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ]، أي انشغلت وانصرفت عنه. والآية [وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ]: أذكره، أي أنتبه له وأحرص عليه وأرقبه. ومن ناحية أخرى (على هذا المعنى)، فإن هذا يؤيد أن الحوت كان لا يزال حياً. فنسيان الحوت الميت (عدم مراقبته) لن يتسبب في هرب الحوت. ولكن لأن الحوت لا يزال حياً، فينبغي تذكره والانتباه له.

وبعد أن استراح موسى، انطلق وفتاه من موضع الصخرة (غادرا المجمع لأنهما لم يعرفاه) واستأنفا الرحلة ليبلغا مجمع البحرين (ظنا أنهما لم يصلا إليه بعد). وبعد أن قطع موسى مسافة ما، وابتعد قليلاً وأصبح خارج نطاق منطقة المجمع [فَلَمَّا جَاوَزَا]، ولعله صار ضمن مناطق البحر الملح (أي جاوز منطقة اختلاط المائين وأصبح في منطقة مالحة، أو جاوز بداية اختلاط المائين)، شعر موسى بالجوع فأمر فتاه أن يطبخ الحوت (السمكة) للغداء. وهذا الحوت اصطاده موسى وفتاه من بحر النيل أي أنه سمكة نهرية (بيئتها الطبيعية الماء العذب). فقال الفتى أنه نسي السمكة عند الصخرة (أي غفل عنها وأهملها) وأنها عادت إلى الماء (وهذا لا يعني بالضرورة أن السمكة ماتت ثم عادت للحياة، فقد تكون تلك السمكة من نوع السمك النيلي الذي يستطيع البقاء خارج الماء لفترة. وقول الفتى أنه نسي السمكة يتضمن أنها كانت حية. فكأنه يقول كان ينبغي ألا أنساها وأن أراقبها لئلا تفلت إلى الماء)، وقال الفتى (ويبدو أنه رأى ذلك) أن الحوت عندما انطلق هارباً في الماء، كان يسبح بطريقة عجيبة، إذ ظل ظاهراً على وجه الماء (سارباً)، أي أنه لم يغص داخل الماء ويختفي فيه كما هي عادة السمك عموماً.

عرف موسى سبب مسلك الحوت الغريب هذا (استمرار السمكة في السباحة على سطح الماء دون أن تغوص). فعلم موسى من طريقة سباحة السمكة أنه قد بلغ مجمع البحرين دون أن يشعر وأنه غادره وجاوزه بمسافة، ولذلك قال [ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ]، أي أن هذا الذي طلبناه، وهو بلوغ مجمع البحرين (حيث يختلط البحران العذب الفرات والملح الأجاج، أي حيث يختلط النيل والمتوسط) وقد بلغناه. ولذلك قفل موسى راجعاً [فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا]، أي أخذ موسى في العودة نحو مكان الصخرة (لأن عنده يختلط ويجتمع ماء النيل وماء البحر المتوسط).

ولكي نعرف ما الذي فهمه موسى، علينا معرفة بعض الأمور عن السمك النهري وما الذي يحدث له إذا وضعناه في ماء بحري مالح.

أكثر الأسماك النهرية (98%) لا تستطيع التكيف مع الوسط المائي المالح، وستموت إذا وضعناها في الماء المالح. فلو وضعنا سمكة نهرية في البحر المتوسط مثلاً فسوف تجف وتيبس (بسبب خروج ماء جسمها إلى البحر) وبالتالي ستموت. فملوحة ماء البحر تؤدي إلى خروج الماء من السمكة النهرية (من خلال خياشيمها التي ستتلف بسرعة أو جسمها) وتجعلها تفقد وزنها وأن تنكمش خلاياها حتى الموت.
وهذا مثل لو أن الإنسان استمر في شرب الماء المالح، فسيموت بالجفاف. ومثل الجزرة عند وضعها في محلول مالح فستذبل ويصغر حجمها (لأنها ستفقد ماءها). وكذلك الزرع إذا سقيناه بماء البحر، سيجف ويذبل.

وحتى الأسماك النهرية التي تستطيع التكيف كالسلمون تحتاج إلى وقت كاف لكي تتدرج في تهيئة جسمها، أما إذا وضعناها فجأة في الماء المالح، فستموت.

بعد أن عرفنا هذه الأمور عن السمك النهري، سنفهم الآن لماذا سبح حوت موسى النهري وهو ظاهر (سارب) على سطح الماء. والجواب لأنه لا يريد أن يتعرض جسمه للماء البحري المالح الذي سيقتله.
وهناك أمر آخر ينبغي معرفته، فعندما يلتقي ماء النهر العذب مع ماء البحر المالح، فإن الماء العذب يطفو ويكون بالأعلى (لأنه أخفّ وأقل كثافة)، وأما الماء المالح فإنه يرسب ويكون بالأسفل (لأنه أثقل وأكثر كثافة).

طفو عذب 

ولذلك سبحت السمكة النهرية على ذلك البساط المائي النهري العذب العلوي الرقيق الذي غطّى وغلّف الماء المالح الذي يوجد أسفله.

سمكة 

ولو غاصت السمكة النهرية فسوف يتعرض جسمها للماء البحري المالح وهو خطر عليها، ولذلك استمرت السمكة النهرية في السباحة ظاهرة (ساربة) على وجه الماء (العذب أو القليل العذوبة).


هل يحتوي جذر سرب على معنى الظهور

أولاً نبدأ بكلام الله:

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) الرعد

لو قارنا بين كلمات الآيتين مثل: (الغيب، الشهادة)، (أسرّ، جهر)، (مستخف، سارب)، (بالليل، بالنهار)، لفهمنا أن معنى سارب هو عكس مستخفي، أي أن معنى سارب هو ظاهر مكشوف واضح مرئي ..الخ. وهو المعنى الذي عليه أكثر المفسرين:

الهداية الى بلوغ النهاية - مكي بن أبي طالب : والسارب في الآية: الظاهر .. وأكثر الناس على أن السارب: الظاهر، لأنه عديل المستخفي المتواري، والسارب: الظاهر/ زاد المسير في علم التفسير: والسارب بالنهار: الظاهر المتصرِّف في حوائجه. يقال: سرَبتِ الإِبل تَسرِب: إِذا مضت في الأرض ظاهرةً، .. ومعنى الكلام: أن الظاهر والخفيِّ عنده سواء، هذا قول الأكثرين.

تفسير الرازي : وقوله: وسارب بالنهار قال الفراء والزجاج: ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه. .. تقول العرب سربت الإبل تسرب سربا، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت، فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفيا في الظلمات أو كان ظاهرا في الطرقات، فعلم الله تعالى محيط بالكل. ... سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي. .. إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضا فالليل يدل على الاستتار، والنهار على الظهور والانتشار.


ثانياً المعاجم والتفاسير:

تاج العروس : (والسَّرَابُ) : الآلُ، .. والآلُ: الَّذي يَكُونُ بالضُّحَى يَرْفَع الشُّخُوصَ كالمَلَا بَيْن السَّمَاءِ والأَرْضِ. وَقَالَ ابْن السِّكِّيت: السَرابُ الَّذي يجْرِي عَلَى وَجْه الأَرْضِ كأَنَّهُ المَاءُ، ..وَقَالَ الأَزهريّ: سَرَبَتِ الإِبِلُ تَسْرُب، وسَرَبَ الفَحْلُ سُرُوباً أَي مَضَتْ فِي الأَرْضِ ظَاهِرَةً حَيْثُ شَاءَت. وظَبْيَةٌ سَارِبَةٌ: ذَاهِبَةٌ فِي مَرْعَاهَا. وسَرَبَ سُرُوباً خَرَجَ. .. وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرَّعْد: 10) أَي ظَاهِر بالنَّهَارِ فِي سِرْبِهِ. .. فالمَعْنَى: الظَّاهِرُ فِي الطُّرقَاتِ والمُسْتَخْفِي فِي الظُّلُمَات، والجَاهِرُ بِنُطْقِه والمُضْمِر فِي نَفْسه، عِلْمُ اللهِ فِيهِم سَوَاءٌ. ... السُّروبُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ مَجَازٌ. ....وَيُقَال: خَرَجَ المَاءُ سَرِباً، وذلِكَ إِذَا خَرَج من عُيُونِ الخُرَزِ، وَقد سَرَّبَهَا فَسَرِبتْ سَرَباً. ويُقَالُ: سَرِّبْ قِرْبتَك.

حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي : والسارب اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه، ... وأريد به هنا لازم معناه، وهو بارز وظاهر لوقوعه في مقابلة مستخف والمصنف رحمه الله تعالى ذهب إلى أنّ سرب حقيقة بمعنى برز، وهو ظاهر.

فتح القدير للشوكاني : وَالسَّارِبُ الْبَارِزُ الظَّاهِرُ
تفسير المراغي : والسارب: الظاهر
مختار الصحاح : {وسارب بالنهار} [الرعد: 10] أي ظاهر
تفسير ابن أبي حاتم : وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ قَالَ: ظَاهَرَ بِالنَّهَارِ بِالْمَعَاصِي.
تفسير السمرقندي : والسارب يعني: الظاهر بالمعاصي
الوجيز للواحدي : والسَّارب: الظَّاهر المارُّ على وجهه
تفسير النيسابوري : والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كل أحد.


وإذن فالآية التي تتحدث عن الحوت: [فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) الكهف]، فالمعنى أن الحوت في سبحه في الماء كان مرئياً ظاهراً مشاهداً بارزاً أي أنه لم يغص ولم يختف في الماء، لأنه لو غاص لتعرض للملوحة المميتة. ولذلك ظل الحوت يسبح على السطح العذب محاولاً أن يعود للمياه النهرية العذبة ويبتعد عن مياه البحر المالحة التي وجد نفسه قربها.

والسبيل هو الطريق، والطريق المعتاد للحوت النهري في الماء العذب هو أن يعبر ويسبح في الماء غوصاً ودخولاً فيه. ولكن الحوت النهري النيلي كان سبيله أو طريقه في الماء المالح أو الذي اختلط بالملوحة، أن عبر فيه وسبح وهو ظاهر للعيان وكأنه ينفر عن هذا النوع من الماء ويتحاشاه. فكان سلوكه هذا عجيبا غريبا للمشاهد الذي سيتساءل لماذا لا يغوص الحوت في الماء ويغيب فيه؟ لماذا يظل الحوت يسبح مسافة طويلة وهو ظاهر بارز مرئي (سارب) على السطح؟ ولو عُرِف السبب الذي أشرنا إليه، لبطل العجب.


حامد العولقي