لماذا قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها؟
الموضوع باختصار ...
سبب قول الملائكة، هو سماعهم كلمة (خليفة).
والخليفة هو من جعل الله الأرض بيده
وتحت تصرفه. وإذن فَهِمَ الملائكةُ أن الله أعطى آدم
(وذريته) القدرة أن
يغيّر في الأرض
(يصلحها أو يفسدها).
وأما قول أن الملائكة رأوا إفساد مخلوقات سابقة، فغير وارد. لأن
كل مخلوق
(عدا آدم وذريته)
لم يجعله الله خليفة
(في الأرض)، وبالتالي فلن يستطيع
أن يصلح أو يفسد.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (30) البقرة
التفسير القديم أرجع سبب ذلك إلى أن الملائكة (قبل أن يخلق الله آدم)، كانوا قد رأوا مَن أفسد في الأرض، سواء من الجن أو من خلق آخر [خريدة العجائب: وزعم بعضهم انه كان قبل آدم في الأرض خلق لهم لحم ودم/ المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: وقد روي: أنّ الأرض كانت معمورة بأمم كثيرة منهم: الطمّ، والرمّ، والجنّ، والبن، والحسن، والبسن]. فظنوا أن ذرية آدم أيضاً سيفسدون، كما أفسد الذين سبقوهم.
أما التفسير الحديث (لبعضهم ممن آمن بخرافة داروين)، فأرجع ذلك إلى أن الملائكة رأوا إفساد (أشباه القرود) التي سبقت وجود الإنسان.
فكأن كثيراً من المفسرين فهموا أن الله يقول للملائكة: (إني سأخلق في الأرض مخلوقاً جديداً). ثم كأن الملائكة تذكروا إفساد المخلوق السابق (الجن أو غيرهم) في الأرض (قبل البشر)، فاقترحوا أن لا داع لخلق مخلوق جديد في الأرض، لكيلا يفسد إفساداً جديداً (فقاسوه على أحوال من سلف قبل آدم/ زاد المسير في علم التفسير).
ولكن لو انتبهنا لكلمة خليفة في الآية (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، لعلمنا لماذا قال الملائكة ما قالوا. إذ أن كلمة (خليفة) فيها معنى مهم سيوضّح لنا سبب قول الملائكة.
المعنى الذي تتضمنه كلمة خليفة
المعنى الذي في كلمة خليفة، هو أن الله سيجعل في الأرض مخلوقاً مسئولاً سيداً مالكاً مسيطراً حاكماً قاضياً متسلطاً متصرفاً ...الخ. وهذا المعنى الذي تضمنته كلمة خليفة، هو الذي جعل الملائكة تقول: إذن هذا الخليفة (أي المتحكم المسئول المتصرف) سيفسد في الأرض.
لماذا الخليفة سيفسد؟ لأن الله جعل الأرض ووضعها تحت سيطرة وأمر وتصرف وتحكم هذا الخليفة. وأي مخلوق (سواء كان بشراً أو من الجن أو من أي خلق) إذا جعل الله الأرض (أو غيرها) تحت سلطته ويده وتصرفه، فالأرجح أن الأرض حينئذ لن تكون في وضع صالح مستقر متوازن (إلا إذا تدخل الله لحفظها أو لإصلاح ما فسد). فكل مخلوق مُعرّض لأن يخطئ أو ينسى أو يضل، فضلاً عن الأهواء والشهوات التي تعصف بالإنسان وغيره من المخلوقات.
ولكي نفهم هذا، سنضرب بعض الأمثلة الواقعية التي يعرفها كل إنسان عاقل. لنفترض أن مالك شركة (الذي أنشأها وبناها وأنفق أمواله لتأسيسها وبذل لأجل ذلك عمره وصحته ودم قلبه)، قال في أحد الأيام لأهله أو لمحبيه، أنه سيتوقف عن مراقبة شركته بنفسه، وسيجعل فلاناً مسئولاً على الشركة مسئولية كاملة مطلقة، وأنه سيستأمنه ويستخلفه عليها وسيعطيه وكالة كاملة يتصرف بالشركة كما يشاء وكما يحلو له (كما لو كان فلان هو مالك الشركة). فمن الطبيعي أن أهل مالك الشركة أو العقلاء من أصدقائه سيقولون له أنك بهذا الفعل قد أضعت شركتك، لأن فلانا لن يخسر شيئاً إذا أهمل الشركة ولعب بها.
أو لنعطي مثالا آخر أشد إيلاماً، لنفترض أن أحدهم في يوم ما، قرر ترك الاهتمام والرعاية المباشرة بأطفاله، وقال سأستأمن فلاناً عليهم، فأترك له شأن رعاية أطفالي رعاية كاملة كيف يشاء، ولن أتدخل في ذلك أبداً. ولو سمع بهذا أي عاقل سيقول لقد أضاع فلان أطفاله. فذلك الرجل الغريب الذي وكّله والد الأطفال عليهم، لن يكون أحن ولا أرحم على الأطفال من والدهم، ولن يخسر ذلك الغريب شيئا لو أهمل رعاية أولئك الأطفال وأضاعهم وأفسدهم.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، ويستطيع كل عاقل أن يتخيل ويتوقع ويتصور بكل وضوح النتائج المستقبلية السيئة المخيفة التي ستجعله لا يتورط أبداً في مثل هذا الأمر. ولولا ظننا وتوقعنا هذا (الذي يشبه ما ظنته الملائكة)، لسلّمنا مفاتيح ومقاليد أمورنا لأي إنسان، ولاستخلفناه على ممتلكاتنا، ولاسترحنا ووفرنا كثيراً من الجهد والتعب. ولكننا نعي وندرك أننا لو فعلنا ذلك لأضعنا كل شيء، لأنه ليس أحرص على المال ولا أحفظ له من صاحبه، ولا أرعى ولا أحرس للولد من والده. ولذلك لا نجد الإنسان يختار هذا الطريق الأسهل فيستأمن غيره على أموره، بل نجده يختار الطريق الأصعب فيسهر ويكد ويتعب ويكاد يهلك نفسه في الرقابة والحراسة المباشرة بنفسه وبعينه على أملاكه وعلى كل ما هو عزيز عليه.
وهذا مثل ما قصدته الملائكة. فكأنهم يرجون من الله ألا يجعل في الأرض خليفة (يملكها ويتحكم بها ويتصرف بها كيفما يشاء)، لأن هذا الخليفة (المتحكم المتصرف المتنفذ الذي قلّده الله أمر الأرض وملّكه إياها واستأمنه عليها ومكّنه منها) لن يخسر شيئاً إذا ضاعت الأرض وفسدت بسبب إهماله وجهله أو ضلاله وخطأه ونسيانه أو أهوائه وشهواته. فهذا الخليفة ليس خالق الأرض، وليس أرحم بها ولا أحرص عليها من خالقها ولا أعلم ولا أحكم. فالملائكة كأنهم يقولون لله: الأرض لا تصلح بغيرك، لا تصلح الا بك، لأنك أنت الوحيد الذي خلقتها وصنعتها وأنت المالك الحق لها وأنت الأحكم والأرحم بها، وأما غيرك فليس مثلك، ولذلك لابد من أن يُفسِد المخلوق لو سلمته أرضك ومكنته منها.
وأما كل ما عدا (بني آدم)، فإن الله لم يستخلفهم في الأرض. فالجان الذين خلقهم الله قبل آدم، لم يجعلهم الله خلفاء في الأرض أصلاً. بمعنى أن الجن ليس في استطاعتهم أن يغيّروا في الأرض أو يتحكموا بها، لأن الله لم يسلطهم عليها. ولذلك الجن لا يستطيعون أصلاً أن يُغيّروا في الأرض من خلال أنفسهم (فلا قدرة ولا استطاعة لهم على ذلك، شأنهم شأن جميع دواب الأرض، عدا الإنسان). ولا يملك شياطين الجن إلا محاولة إقناع سيد الأرض المتصرف المالك (الإنسان)، لكي يُغيّر في الأرض [وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (22) إبراهيم]، لأن الله لم يسمح إلا لهذا الإنسان أن يتحكم بالأرض (لأنه الوحيد الذي جعله الله خليفة في الأرض). فالجان يمكن تشبيهه بإنسان عاجز مشلول لا يستطيع أن يحرك يده (أو ليست له يد)، ولكنه يحاول ساعياً أن يستخدم يد غيره (يد الإنسان القادرة المتسلطة)، من خلال إقناع الإنسان أن يُعيره يده [وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ (119) النساء]. فالذي (يُبتّك) و(يُغيّر) هو الإنسان (من دون يد الإنسان لا يملك الشيطان أن يُغيّر شيئاً في الأرض).
وأما أشباه قرود داروين فهم خرافة وخيال علمي. وأما كل ما خلق الله قبل آدم
من أحياء مادية أرضية فهي ليست إلا حيوانات مسخّرة لبني آدم، وقدراتها
العقلية متواضعة محدودة كما نعلم من واقعنا.
فلو افترضنا أن الله قال سأخلق مخلوقاً جديداً في الأرض، لما تكلمت
الملائكة. ولكن الذي جعلهم يتكلمون هو سماعهم لكلمة (خليفة). أي كأنهم
فهموا أن الله قال لهم سأجعل الأرض تحت رحمة مخلوق، أو
سأسلم الأرض إلى يد
مخلوق. ففهم الملائكة أن هذا المخلوق (الذي منحه الله هذه الصلاحية
والسلطة) يستطيع أن يفعل بالأرض ما يشاء
(يستطيع أن يُغيّر فيها إصلاحاً أو
إفساداً). ولذلك رجّحوا أن الأرض سوف تفسد، ما دامت
تحت رحمة مخلوق
(يستطيع
أن يتحكم ويتصرف بها). فهم يرون بالبديهة، أن الأرض لا تصلح إلا إذا كانت
فقط تحت تصرف خالقها.
وأحب أن أضيف عبارة رائعة منسوبة للمسيح (إنجيل
متى 19-17 لماذا تدعوني
صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله). فالملائكة لم يعترضوا على جعل
مخلوق جديد في الأرض (مجرد مخلوق كغيره ممن سبقه من مخلوقات أرضية لا
يستطيع أن يتصرف ويتحكم بالأرض)، ولكنهم اعترضوا على جعل
خليفة
(أي على
مخلوق يستطيع التصرف والتحكم بالأرض).
وقد أجاد صاحب تفسير المنار وفصّل ووضّح
(فليراجع تفسيره كما كتبه)
[وأما الإنسان ... يكون له به
السلطان على هذه الكائنات،
فيسخرها ويذللها ...
يتصرف بمجموعه في الكون
تصرفا لا حد له ...
وملكه
الأرض... حتى غيّر شكل الأرض]. ومثله تفاسير أخرى
[وسيتولى قيادة هذا
الكوكب،... وفى شئونها يتصرف.. استقلالا فى
تصريف الشئون فيما هو خليفة
فيه، ومتسلط عليه، ... شأنه فى هذا شأن
الوكيل/
التفسير القرآني للقرآن للخطيب]،
[مثل الوكيل والوصي، ...أودعه في الإنسان
وهو السلطنة على موجودات الأرض، ...
يتصرف في مخلوقات الأرض/
التحرير والتنوير لابن عاشور]،
[فكان الإنسان هو الخليفة الذي سلم أمر الأرض
إليه/ مجلة الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة]. وجاءت معان لكلمة خليفة في بعض التفاسير القديمة تشبه
ما سبق، فيها ما يتعلق بالحكم والقضاء والأمر والنهي والعمران.
وهذا كله يؤدي إلى معنى أن الخليفة هو الذي أعطاه الله (الأمانة) والمسؤولية والسلطان والتحكم والتصرف في الأرض [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ (62) النمل]. فيستطيع هذا الخليفة (في حدود ما شاء الله وما سمح له) أن يصلح الأرض أو يفسدها (لأن الله مكّنه من ذلك). فالخليفة في الأرض هو الذي حمّله الله أمانة الأرض [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) الأحزاب]. والإنسان (بما قلّده الله من سلطة وتحكم) يستطيع أن يفسد الأرض، لولا رحمة الله بنا وفضله علينا [وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (251) البقرة/ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (71) المؤمنون/ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ((46) إبراهيم].
واستخلاف الله لبني آدم في الأرض، فيه حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه. ولكن ربما عرفنا منها (بالإضافة إلى تكريم بني آدم) أن الله يريد أن يختبر الإنسان. واختبار الإنسان يتطلب أن يمنحه الله القدرة والسلطة على تغيير الأرض، إصلاحاً أو إفساداً. فبنو آدم الذين قبلوا حمل الأمانة، عليهم أن يستوفوها، وإلا حاسبهم الذي حمّلهم إياها يوم الحساب.
حامد العولقي