لماذا جعل الله بيته في واد غير ذي زرع
جعل الله مانعاً طبيعياً
يمنع الناس في
الأزمنة القديمة من طلاب متاع الدنيا، من الطمع في أرض مكة والاستقرار بها.
وهذا المانع الطبيعي هو خلو أرض مكة من الذي يطلبه أكثر الناس في ذلك الزمان من
طيبات الدنيا وخيراتها الطبيعية[1].
فالناس قديماً كانوا يطلبون الأرض الخصبة الغنية ذات الجنات الكثيرة وذات الماء
الغزير
(العيون الكثيرة والأنهار والأمطار) وذات الطقس المناسب الجميل[2].
وكانوا كثيراً ما يتقاتلون ويغيرون ويتسابقون ويتنافسون على مثل هذه الأراضي
الرائعة الفاخرة ذات الأنهار العظيمة أو الأمطار الغزيرة، وذات التربة الطينية
الغنية والمناخ المناسب المعتدل كالعراق والشام ومصر وغيرها.
ولكن الله لم يجعل أرض مكة لمثل هذا الأمر،
وإنما جعلها فقط للعبادة (عبادته وحده)
وللقداسة والطهارة وللأمن
(حصن وملاذ للصالحين
وللمستضعفين). ولو جعل الله أرض مكة غنية بالموارد
الطبيعية أو اختار لموضع بيته أرضاً غنية أخرى
(غير مكة)، لتقاتل الناس على أرض بيت الله
(لو كانت غنية بالموارد
الطبيعية)، ولتزاحموا عليها من أجل نيل خيراتها
(كما يتزاحمون ويتقاتلون
عادة على غيرها من القرى ذات الخيرات والموارد الكثيرة)، ولضاع الهدف من بناء الكعبة (الذي هو عبادة
الله وحده) وسط سيطرة الملوك والجبابرة والدول القوية وتنافسهم وتقاتلهم
وتقاتل الناس ثم ترفهم وتقلبهم في نعيم الجنان، ولضاع الأمن الذي يتمناه
الصالحون والضعفاء والمساكين.
لذلك، ولحكمة عظيمة، اختار الله مكة البلد
الأمين في ذلك الوادي الجدب[3]
الفقير غير ذي الزرع[4]، في أرض
نزر قليلة الماء والزرع
(ومكة تقع في قلب أرض
نزار التي اشتق اسمها من
نزارة
مواردها الطبيعة)[5]. فأرض مكة
وما حولها أرض جدبة يابسة عطشة شحيحة الماء[6]
[أساس البلاغة - الزمخشري : وقيل لمكّة: النّاسّة والنسّاسة: لجدبها ويبسها/
مقاييس اللغة: نست القطاة: عطشت. ويقال لمكة الناسة، لقلة الماء بها/
الصحاح: النَسُّ: اليُبْسُ. وقد نس ينس وينس نسا، أي يبس. يقال: جاءنا
بخُبزةٍ ناسَّةٍ. قال العجاج: وبَلَدٍ تُمْسي قَطاةُ نُسَّسا، أي يابسة من
العطش. ويقال لمكَّة: الناسَّة، لقلَّة الماء بها].
فكانت النتيجة كما هي متوقعة، أن الذين يطلبون
مشتهيات وملذات الدنيا ونعيمها نفروا عن أرض مكة وعزفوا عنها كما ينفرون عن
أي بلد فقير جدب أو كما ينفر الناس عن الصحاري القاحلة. فلم يطمع الملوك
والجبابرة في أرض مكة، لأن لا شيء يطمعهم فيها من ملذات الدنيا، فتركوها
وشأنها[7].
وقد تنبّه الرازي لذلك
(وأظنه الوحيد حسب علمي)، فذكر في تفسيره
[الفضيلة
السابعة: إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع، والحكمة من وجوه أحدها: ...
وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة
والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا
لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع، فالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود
أهل الدنيا، وثالثها: أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك
لمحض العبادة والزيارة فقط ...
وخامسها: كأنه قال: لما لم أجعل
الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا
فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا].
وبالتالي فلن يسكن عند الكعبة وفي مكة إلا العابدون المصلون الصالحون
الذين لا يريدون إلا عبادة الله وحده والتقرب إليه. كذلك لن يقطن مكة إلا
الخائفون المستضعفون المساكين الفقراء الذين لا يريدون إلا الطمأنينة
والراحة النفسية والحماية والأمن الذي لا يوجد مثله في أي مكان على الأرض
غير مكة. أما الجبابرة وأهل الدنيا فهم في غنى وشغل عن ذلك فلا يريدون عبادة
الله ولا الزهد بل يتنافسون بكل طمع وتشوق على الدنيا وملذاتها
[وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) العاديات/
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) الفجر].
لذلك كان الناس منذ القدم، إذا مروا بمكة، وجدوا بلداً فقيراً جدباً صعب
الظروف في تضاريسه ومناخه فانصرفوا عنه ولم يطمعوا فيه، فكان هذا أحد أسباب
أمن مكة. أما الصالح الزاهد المتواضع من الناس الذي لا يطمع في نعيم الدنيا
وملذاتها، إذا مر بمكة، فإنها تأسر قلبه، فيحب أن يستقر بها
(بشكل مؤقت أو
دائم) ليعبد الله وحده ويتطهر ويهدأ ويطمئن. ومثله كذلك الخائف الطريد
الهارب أو المستضعف المسكين، إذا مر بمكة فسيمتلأ قلبه بالأمن والسكينة
والسرور، وسوف يحب أن يتشبث بهذا المكان الذي سيكون جنّة أمنه وملجأه وملاذه
الأبدي فلا يغادره، ولن يجد أحداً يمنعه من البقاء عند بيت الله[8]
.
فالله جعل مكة بطريقة طبيعية تلقائية تطرد وتصرف وتنفي عنها طالب الدنيا
ونعيمها. وأما الذي لا يريد إلا عبادة الله وحده فإن مكة تجذبه كالمغناطيس.
كذلك يجذب (البلد الأمين) الخائفين أو المستضعفين طالبي الأمن والاستقرار
والهدوء والسلام[9].
بالإضافة إلى ما سبق، كذلك قد تكون هناك أسباب أخرى، مثل أن يختبر الله صبر
الحجاج والمعتمرين على تحمل أداء مناسك الحج والعمرة في أرض يصعب على أكثر
الناس
(الذين جاء أكثرهم من بلدان زراعية خصبة) تحمل تضاريسها وطقسها.
[1]
الصفدية : والكعبة بيت ...
بواد غير ذي زرع ليس عنده ما تشتهيه النفوس
من البساتين والمياه وغيرها ... ولا
في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس بل كثيرا ما يكون في
طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله/ رحلة
ابن جبير: وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور تواليى مجيء
السرو إليمنيين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الادام
والفواكه إليابسة فأرغدوا البلد ولولاهم لكان من
اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد
ومشقة فهم رحمة لهذا البلد الأمين/
سفر نامه : ثمَّ بلغنَا مَكَّة بعد عشرَة أَيَّام لم تحضر
لمَكَّة قافلة من اي بلد فِي هَذِه السّنة وشح الطَّعَام/نزهة
المشتاق فى اختراق الآفاق: وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر
البادية... ولا زرع بها ولا حنطة ...
والغالب على ضعفاء أهلها
الجوع وسوء الحال
[2]
أحسن
التقاسيم في معرفة الأقاليم: ويكون بالحرم حرّ عظيم وريح تقتل/
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: كنت مع عليّ
بن عيسى، لمّا نفي إلى مكة، فلما دخلناها، دخلنا في حرّ شديد، وقد
كدنا نتلف. فطاف علي بن عيسى، وسعى، وجاء فألقى نفسه، وهو كالميت من
الحر والتعب، وقلق قلقا شديدا/
سفر نامه: وجو مكة حار جدا/ البلدان لابن
الفقيه : من صبر على حرّ مكّة تباعد
منه جهنّم مسيرة مائة عام
[3]
[البحر المحيط في التفسير : لما بنى
إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان
حال من يتمدن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما
القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبى له الأرزاق/ وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب، فهي
أكثر بلاد الله قحطا وجدبا]/
القبس في شرح موطأ مالك بن أنس : الثاني: سفر
الحج: والأول ندب وهذا فرض، لكنه أخص منه، وفيه أيضًا عبرة شنعاء،
فإنه يرى أوحش بقعة في الأرض إلى
خلق الله تعالى بوادٍ غيرَ ذي زرع، فيه حجارة مجموعة ليسَ لها شارة
جمال تعلقت بها قلوب الخلق واستشعروا فيها رضي الحق، وهذه عبرة تدل
على سعة القدرة وعظيم الحكمة/ كنز الدرر وجامع الغرر : وعاش طوطيس
الملك إلى أن وجّهت إليه هاجر من مكّة تعرّفه أنّها في
مكان جدب وتستعينه./
سفر نامه : وليس بمكة
شجر أبدا إلا عند باب الغربي للمسجد الحرام
[4]
تفسير مقاتل بن سليمان: بِوادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني لا حرث فيها ولا ماء يعني مكة/ تفسير ابن
عطية : وقوله تعالى: مِنْ جُوعٍ معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير
ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف
الله تعالى/ تفسير البيضاوي : بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني وادي
مكة فإنها حجرية لا تنبت/ تفسير
الخازن : وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ إنما سأل إبراهيم ذلك
لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر/
سفر نامه : وماء آبار مكة مالح ومر لا يساغ شربه
[5]
[سفر
نامه: وكان بمكة قحط ... وقد
هاجر منها المجاورون ولم يفد عليها حاج من أي بلد ...
قد خرج من الحجاز خلق كثير
مما أصابهم من الجوع والفقر وتفرقوا
في البلاد/ وقدرت أن
سكانها القاطنين بها لا يزيدون على ألفين
والباقي ويقربون من الخمسمائة من الغرباء والمجاورين وفي ذلك
الوقت كان بمكة قحط ... وقد هاجر منها كثيرون]
[6]
تاريخ الطبري: فأخبروه أن مكة قليلة الماء،
وأنهم يخافون على الحاج العطش/ تفسير ابن جزي : قالوا له: إن مكة
قليلة الماء ففجر لنا فيها عينا من الماء
[7]
البلدان
لابن الفقيه : فمن شرف مكّة أمنه، ...
وأن أهلها في الجاهليّة
كانت لقاحا لم يؤدّوا أتاوة قطّ، ولا ملكهم ملك
[8]
لأن مكة أرض الله وبلد الله الحرام جعلها الله
لكل إنسان يريد عبادة الله وحده، وليست مكة كبقية قرى الأرض التي
أسسها أصحابها لتكون لهم ولأولادهم