نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

Untitled 1

معنى توفى الله فلانا دون الإشارة للنوم

حسب القرآن، فإن جميع الآيات التي فيها معنى: [الله توفى فلاناً] أو [الملاك توفى فلاناً]، ثم لا تذكر الآيات النوم أو لا تشير إليه، أو لا تذكر الاستيقاظ والبعث وعدم الموت، فإن المعنى دائماً (عند المفسرين) هو: [فلان مات]. وسنستعرض كل الآيات (أو أكثرها) التي فيها هذا المعنى، وسنجد دائماً تفسيرها (أن فلاناً مات):

أولاً الآيات التي لا تحتاج إلى تفسير، إذ يتضح فيها أن الوفاة هي الموت:

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا (61) الأنعام

ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ (67) غافر

فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ (15) النساء

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ (11) السجدة

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (234) البقرة

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ (240) البقرة

 

ثانياً الآيات التي قد تحتاج إلى تفسير:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ (46) يونس

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ (40) الرعد

فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ (77) غافر

تفسير مقاتل بن سليمان: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يقول أو نميتك يا محمد/ تفسير السمرقندي: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يقول: أو نميتنّك/ تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين: أو نتوفينك تفسير الحسن: إن الله أخبر محمدا أن له في أمته نقمة، ولم يخبره، أفي حياته تكون أم بعد موته؟/ تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} نقبضنك قبل أَن نريك/ تفسير الطبري: وإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك فيهم/ التصاريف لتفسير القرآن - يحيى بن سلام (المتوفى: 200هـ): {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} يعني نميتك/ اللباب في علوم الكتاب : قال مجاهد: فكان البعضُ الذي رآه قتلهم ببدر، وسائر أنواع العذاب بعد موته/

 

وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ (104) يونس

تفسير الطبري: وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ... لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء/ تفسير الطبري: {ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} [يونس: 104] يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم، فيميتكم عند آجالكم/ الهداية الى بلوغ النهاية :{ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ}: أي: يقبض أرواحكم عند مجيء آجالكم/ التفسير الوسيط للواحدي: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104] أي: يقدر على إماتتكم، وهذا يتضمن تهديدا لهم لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم/ تفسير البغوي والقرطبي: ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم، يميتكم ويقبض أرواحكم/ زاد المسير في علم التفسير: لأني أعبد الله الذي يميت ... فإن قيل: لم قال: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ولم يقل: «الذي خلقكم» ؟ فالجواب: أن هذا يتضمن تهديدهم، لأن ميعاد عذابهم الوفاة/ تفسير الخازن: وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ... وقيل: لما كان الموت أشد الأشياء على النفس ذكر في هذ المقام ليكون أقوى في الزجر والردع وقيل إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم

 

 

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (70) النحل

تفسير مقاتل بن سليمان: ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عند آجالكم/ تفسير يحيى بن سلام: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} [النحل: 70] يُمِيتُكُمْ/ الهداية الى بلوغ النهاية: ثم يتوفاكم أي: يميتكم/ تفسير الجلالين وتفسير النيسابوري والتفسير الوسيط للواحدي: ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم/ تفسير البيضاوي: ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ بآجال مختلفة/ تفسير الخازن: ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ يعني عند انقضاء آجالكم إما صبيانا وإما شبانا وإما كهولا/ تفسير النيسابوري: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أخرجكم من العدم إلى الوجود ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عن الوجود المجازي/ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: {ثم يتوفاكم} على اختلاف الأسنان، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، فمنكم من يموت حال قوته/

 

 

 

 الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ (28) النحل

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ (97) النساء

تفسير يحيى بن سلام: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] قَالَ بَعْضُهُمْ: تَوَفَّاهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ/ تفسير الطبري: كان ناس بمكة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا، فأخرج بهم كرها إلى بدر، فقتل بعضهم، فأنزل الله فيهم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)/ تفسير الطبري: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ...يقول: الذين تقبض أرواحهم الملائكة، {ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] يعني: وهم على كفرهم وشركهم بالله. وقيل: إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر/ تفسير السمرقندي: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي: يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه، ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ

 

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ (32) النحل

تفسير مقاتل بن سليمان: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ في الدنيا يعني ملك الموت وحده/ تفسير السمرقندي: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي: ملك الموت طَيِّبِينَ/ زاد المسير في علم التفسير: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ....طيبة أنفسهم بالموت/ تفسير الرازي: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم [النحل: 32] قيل: إن ملك الموت يقول في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام، ويقول: أجبني فإني مشتاق إليك، واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة، يقول لملك الموت: للبشير مني هدية، ولا هدية أعز من روحي، فاقبض روحي هدية لك/ تفسير القرطبي: " تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم". وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن

 

رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) آل عمران

تفسير الطبري: "وتوفنا مع الأبرار"، يعني بذلك: واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك، في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم. /تفسير الراغب الأصفهاني: وقوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) نحو ما حكى عن غيره في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وفيه تنبيه أنهم لا يكرهون لقاء الله/ السراج المنير: {وتوفنا مع الأبرار} ...وفيه تنبيه على إنهم يحبون لقاء الله تعالى «ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه» ، رواه الشيخان/ التفسير المظهري: وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) ... فان قيل هذا سؤال الموت وقد نهى رسول الله عن تمنى الموت ...على ان المقصود من هذا الدعاء هاهنا الدعاء باستدامة وصف البر والإحسان ابدا الى وقت الموت وحلول الاجل.

 

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) الأعراف

تفسير مقاتل بن سليمان: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ...فصلبهم فرعون من يومه فكانوا أول النهار سحرة كفارا وآخر النهار شهداء مسلمين

 

تَوَفَّنِي مُسْلِمًا (101) يوسف

تفسير الطبري: توفني مسلما ... قال قتادة: «ولم يتمن الموت أحد قط نبي ولا غيره إلا يوسف»/ تفسير ابن أبي حاتم : توفني مسلما وألحقني بالصالحين قال ابن عباس: هذا أول نبي سأل الله الموت/ تفسير السمرقندي :تَوَفَّنِي مُسْلِماً يعني: أمتني/ تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين:{توفني مُسلما } ... فَتَمَنَّى [الْمَوْتَ]/

 

حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ (37) الأعراف

تفسير مقاتل بن سليمان: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يعني ملك الموت وحده/ تفسير الطبري :ملك الموت، أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال: " هو الذي يلي أمر الأرواح، وله أعوان على ذلك، ألا تسمع إلى قول الله تعالى: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم}/ معاني القرآن وإعرابه للزجاج : رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) ... حتى إذا جاءَتهم ملائكة الموت يتوفونهم/ تفسير السمرقندي :حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يعني: أمهلهم حتى يأتيهم ملك الموت وأعوانه عند قبض أرواحهم/ تفسير الثعلبي: رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه/ التفسير الوسيط للواحدي: رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [الأعراف: 37] قال ابن عباس: يعني الملائكة يقبضون أرواحهم.

 

فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) محمد

تفسير السمعاني: يضْربُونَ وُجُوههم عِنْد الْمَوْت/ تفسير ابن كثير: كَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَعَصَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ وَالضَّرْبِ/ الدر المنثور في التفسير بالمأثور: توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم} قَالَ: عِنْد الْمَوْت/

 

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (50) الأنفال

تفسير مقاتل بن سليمان: وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد الله الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت وحده/ تفسير الطبري: ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار، فتنزعها من أجسادهم/ تفسير الطبري: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} [الأنفال: 50]، وهو ملك الموت

 

 

فالآيات السابقة جميعها بلا استثناء تعني أن الله أو ملاكه قد أمات فلاناً. فالقاعدة واضحة سهلة وهي: إذا جاءت بالقرآن عبارة بمعنى [الله توفّى فلاناً] أو [الملاك توفى فلاناً]، ثم لم يرد ذكر النوم أو إشارة إليه أو الاستيقاظ والانبعاث منه أو نفي للموت، فإن المعنى حتماً يكون [الموت] لا غير. فإذا قلنا أنها وفاة نوم، فهذا لا يتناسب مع معنى مثل هذه الآيات (كما رأينا).

أما إذا جاءت عبارة بالقرآن بمعنى [الله أو ملاكه توفّى فلاناً]، ثم جاء ذكر النوم أو إشارة إليه أو للاستيقاظ منه، فإن المعنى يكون وفاة [نوم]، لا وفاة موت. مثل:

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى (60) الأنعام

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (42) الزمر

فالآية الأولى ذكر فيها (الليل)، وهذا تلميح أنها وفاة نوم، كذلك صرحت الآية [يبعثكم فيه] أي يبعثكم في النهار (يصحو الشخص من نومه ويستيقظ)، بالإضافة إلى الإشارة للحياة (= أي يستمر في الحياة إلى أجل مسمّى).

والآية الثانية ذكر القرآن عبارة [لم تمت]، وعبارة [منامها]، وعبارة [أجل مسمّى]. وكل هذا يعني وفاة نوم.

فنفهم من طريقة القرآن: أنه إذا جاءت عبارة بمعنى [الله أو الملاك توفّى الإنسان]، ثم لم ترد أي إشارة واضحة وصريحة للنوم مثل [بِاللَّيْلِ/ مَنَامِهَا] أو للحياة بعد هذه الوفاة مثل [يَبْعَثُكُمْ/ أَجَلٌ مُسَمًّى/ لَمْ تَمُتْ]، فإنه لابد أن يكون المعنى هو وفاة موت.

ولا نزال إلى اليوم نستعمل هذه الطريقة. فإذا قال شخص للناس [الله توفّى فلاناً] وسكت ذلك الشخص (دون أن يعطي إشارة أنها وفاة نوم أو أنه استيقظ بعد وفاته أو أنه لم يمت، ...الخ)، فأن الناس لابد أن يفهموا أن فلاناً قد مات. فالعبارة [الله أو الملاك توفّى فلاناً] فقط (=أي ليس فيها صرف عن معنى الموت)، يجب أن تعني الموت.

فلا يكفي أن نقول أن الوفاة بالقرآن تعني (الموت أو النوم)، فنظن أنه يجوز لنا أن نختار أحد المعنيين كما نشاء كالنوم مثلاً، فهذا خطأ. فالقرآن له طريقة واضحة سهلة (كما رأينا في الآيات) نستطيع من خلالها معرفة المعنى المقصود بالوفاة. لا أنه يحق لنا أن نختار المعنى الذي نريده (موت أو نوم).

 

لماذا خالف الجمهور طريقة الآيات السابقة فلم يفسروا وفاة عيسى بالموت؟

لا يوجد جواب مقنع. فحسب طريقة القرآن واللغة، ينبغي أن يفسر معنى (الله توفى عيسى) بأن الله أمات عيسى. فهذه هي طريقة القرآن كما رأينا في كل الآيات السابقة التي استعرضناها.

والآن نذكر الآيتين اللتين تتحدثان عن وفاة المسيح:

وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ (117) المائدة

فسرها بعضهم تفسيراً صحيحاً أنها وفاة موت [تفسير مقاتل بن سليمان: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يَقُولُ فَلَمَّا بلغ بي أجل الموت فمت كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ/ تفسير الماوردي: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فيه وجهان: أحدهما: أنه الموت/البحر المحيط في التفسير: فلما توفيتني قيل: هذا يدل على أنه توفاه وفاة الموت قبل أن يرفعه/المحلى بالآثار لابن حزم: فَالْوَفَاةُ قِسْمَانِ: نَوْمٌ وَمَوْتٌ فَقَطْ وَلَمْ يُرِدْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: 117] وَفَاةَ النَّوْمِ، فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى وَفَاةَ الْمَوْتِ].

ولكن الجمهور لم يفسروها بالموت[1]. فلماذا خالف جمهور المفسرين طريقة القرآن التي في بقية الآيات المشابهة (حيث الوفاة تعني الموت)، بينما قالوا أن وفاة عيسى بمعنى النوم في هذه الآية (التي تشبه الآيات السابقة)؟

 وكذلك خالفوا طريقة القرآن في آية:

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (55) آل عمران

فالآية فيها معنى [الله توفى عيسى]، ولم يرد ذكر النوم أو البعث منه أو أي ذكر للحياة [مثل: أجل مسمّى/ لم تمت]. وإذن فالمعنى كان ينبغي أن يكون هو: [الله أمات عيسى].

ورغم أن بعض التفاسير فسرت وفاة عيسى تفسيراً صحيحاً بالموت [متوفيك وفاةَ موتٍ/ "إني متوفيك"، يقول: إني مميتك/ رفعه ثم أماته/ رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته][2]، إلا أن تفاسير قد يرد فيها أن هذا الموت كان لبضع ساعات[3] ثم أحياه الله. وهذا غير بعيد عن قول النصارى[4].

وأما التفسير المشهور للآية فهو أن عيسى لم يمت ["هي وفاة نَوْم"، ... إني مُنِيمك ورافعك في نومك/ يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه/"إن عيسَى لم يمتْ/ "إني متوفيك ورافعك"، أي: قابضك من الأرض حيًّا ... بغير موت/ متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت/ما كان الله عز وجل ليميت عيسى][5].

فيتضح أن جمهور المفسرين خالفوا طريقة القرآن عندما فسروا معنى (وفاة عيسى) في الآيتين السابقتين. فلم يقل الجمهور أنها (وفاة موت)، وإنما قالوا أنها (وفاة نوم) دون أي سبب قرآني أو لغوي.

فهل للمفسرين ميزانان أو معياران؟ هل عندهم إذا توفى الله بشراً (غير عيسى)، فالمعنى أن الله أماته؟ بينما إذا توفى الله عيسى (وهو بشر كغيره) فأن المعنى أن الله لم يمته بل فقط أنامه؟ لماذا تختلف وفاة عيسى عن وفاة غيره من البشر؟ لم أجد جواباً مقنعاً لهذا الاختلاف حسب طريقة القرآن. فهل غلونا في عيسى كما غلت النصارى فيه ونحن لا نشعر، فجعلناه يختلف عن غيره من الناس؟

[تفسير المنار : فالمتبادر من الآية: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، ... هذا ما يفهمه القارئ الخالي الذهن من الروايات والأقوال; لأنه هو المتبادر من العبارة وقد أيدناه بالشواهد من الآيات، ولكن المفسرين قد حولوا الكلام عن ظاهره لينطبق على ما أعطتهم الروايات من كون عيسى رفع إلى السماء بجسده، وهاك ما قاله الأستاذ الإمام في ذلك: يقول بعض المفسرين: إني متوفيك أي منومك، وبعضهم: إني قابضك من الأرض بروحك وجسدك ورافعك إلي بيان لهذا التوفي، وبعضهم: إني أنجيك من هؤلاء المعتدين، فلا يتمكنون من قتلك، وأميتك حتف أنفك ثم أرفعك إلي، ونسب هذا القول إلى الجمهور ... (قال) : والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية ...]

 

لماذا رفع الله جسد عيسى؟

لأن أعداء عيسى الذين كفروا به أرادوا قتله وصلبه وخططوا لذلك [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) آل عمران]. فكما أنقذ الله إبراهيم من كيد الذين أرادوا حرقه وأنقذ موسى من فرعون الذي أراد قتله، كذلك أنقذ الله عيسى من الذين أرادوا قتله وصلبه. فلو ترك الله جسد عيسى بعد موته ولم يرفعه إليه، لهجم الأعداء واقتحموا المكان (الذي فيه جسد عيسى) ثم لأخذوا الجسد وعلقوه على الصليب (أي لتمكنوا من صلب الجسد).

وحتى لو استطاع أتباع عيسى أن يقبروا عيسى أو يخفوا قبره، لعذبهم الكفار (الذين يطلبون جسد عيسى) ولقهروهم وأرغموهم على إفشاء مكان القبر ولنبشوه ثم لصلبوا الجسد.

 فالكفار ليس فقط منعهم الله من قتل عيسى، بل أيضاً منعهم من صلب جسده. ولذلك نفى القرآن القتل وأيضاً نفى الصلب [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ (57) النساء]. فلو لم يرفع الله جسد المسيح، لعثر أعداؤه على جسده وعلّقوه على الصليب ولقالوا قد صلبنا الجسد على الأقل. ولكن كما لم يرد الله لهم قتل عيسى (وذلك بأن توفاه أي أماته)، كذلك لم يرد لهم صلب جسده الميت (وذلك بأن رفع الجسد). فالله طهّر عيسى من الكفار أن يمسوه وأن يبسطوا إليه أيديهم سواء بالقتل (أمات الله عيسى ففاتهم قتله) أو بالصلب (رفع الله الجسد الميّت ففاتهم صلبه) والإهانات التي ذكرتها الأناجيل [وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (55) آل عمران].

وقد يظن بعضهم أن الصلب لا يكون للميت (بل للحي فقط). ولكن التاريخ مليء بأخبار صلب الموتى والمقبورين، فلتراجع تلك الأخبار[6]. وتمثيل العدو بالجثة معروف. وكم من قتيل استطاع أعداؤه الحصول على جثته فعبثوا بها كل العبث. وأسباب التنكيل بالجثة عديدة، منها العداوة الشديدة والكراهية والتشفي والشماتة وكذلك رغبة العدو أن يُحدِث ويُلحِق الإهانة والخزي والتحقير والعار لصاحب الجثة ولأتباعه ومناصريه وأوليائه. ولذلك قد تقرأ في التاريخ أن قبر فلان أخفي عن الناس (لكي لا يتمكن العدو من نبش الجثة والتمثيل بها وإهانتها).

 

هل يعترض القرآن على موت عيسى؟

والقرآن لا يعترض على موت أي بشر [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (35) الأنبياء/ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (75) المائدة/] وعيسى حسب القرآن ليس إلا بشر كمحمد عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء والناس [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ (144) آل عمران]. فالرسل قبل محمد قد خلت (= ذهبوا ومضوا ولن يرجعوا للدنيا) ولم يستثن القرآن أحداً منهم (فلماذا نستثني المسيح من ذلك؟). ومحمد والمسيح سيّان في هذا الأمر، فكلاهما [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فلماذا نقول برجوع المسيح ولا نقول برجوع محمد؟

والله لا يعترض على موت أي إنسان (المسيح أو غيره)، ولكن الله فقط اعترض على قول الذين قالوا أنهم قتلوا وصلبوا عيسى. أما الموت (أقصد: الوفاة الطبيعية دون قتل)، فلا يعترض الله عليه فكل نفس ذائقة الموت [{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ (8) الجمعة/ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (78) النساء]. فالمسيح بشر مثل بقية البشر، وكل بشر يستمر في الحياة إلى أجل ثم يموت.

 

هل نكفر بآية (وما قتلوه وما صلبوه)  إذا قلنا أن عيسى مات؟

كثير من الناس يخلطون بين موت عيسى وبين قتله. فهم يظنون أنهم لو قالوا بموت عيسى فكأنهم يقولون بقتله وصلبه، فيخشون أن يكفروا بقول الله [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ (157) النساء]. فموت عيسى عندهم يساوي قتله.

ولكن الموت الطبيعي شيء والقتل شيء آخر. فكل أنبياء الله الذين لم يقتلهم الناس، ماتوا ميتة طبيعية. فنحن مثلاً نقول أن موسى مات وأن محمداً مات، فهل يعني هذا أنهما قتلا وصلبا؟ بالطبع لا، فلا توجد علاقة بين الموت الطبيعي وبين القتل والصلب. فكل إنسان سيموت ولكن ليس كل إنسان سيُقتل. فالله لا يعترض على موت المسيح، ولكنه فقط اعترض على قتله وصلبه. وهناك آثار تشير إلى موت المسيح [البحر المحيط في التفسير: وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلا اتباعي/ أسباب النزول – الواحدي: فقال لهما النبي ... قال: "ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى أتى عليه الفناء؟].

بل أن المسيح نفسه وهو في مهده كان يقول لقومه أنه سيموت [ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (34) مريم]. فما قاله عيسى وهو طفل رضيع ينطبق عليه وعلى كل إنسان (فيما عدا السلام على عيسى): فكل إنسان يولد ثم يموت ثم يبعث يوم القيامة. فهذه هي الرحلة الطبيعية لكل بشر، وعيسى ليس إلا بشراً كغيره.

الذي يكفر بكلام الله، هو الذي يقول عبارة معناها أن المسيح قتلوه وصلبوه، مثل أن يقول (المسيح مات على الصليب). فمعنى عبارة (المسيح مات على الصليب) هو نفس معنى (قتلوه وصلبوه). وهذا القول هو كفر بكلام الله [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ].

أما أن نقول أن المسيح مات ميتة طبيعية كما مات محمد وموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لم يُقتلوا، فهذا القول ليس فيه كفر بكلام الله.

وهذه بعض التفاسير حول موت المسيح:

تفسير الألوسي : وثانيها أن المراد إني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك.

[وظاهر القرآن أن عيسى مات والقول بانه حي في مكان ما او في السماء لا دليل له]/ص 278/ مائة سؤال عن الاسلام، محمد الغزالي/كما ذكر الشيخ محمد الغزالي في مجلة لواء الإسلام: [أميل إلى أن عيسى مات، وأنه كسائر الأنبياء ماتَ ورُفِع بروحه فقط، وأن جسمه في مصيره كأجساد الأنبياء كلها، وتنطبق عليه الآية: (إنك مَيِّتٌ وإنَّهُم مَيتُونَ)، والآية (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُسل).. وبهذا يتحقق أن عيسى مات]. وفي نفس المجلة يقول [ ومن رأيي أنه خير لنا نحن المسلمين وكتابنا (القرآن الكريم) لم يقل قولا حاسما أبدا أن عيسى حي بجسده، خير لنا منعا للاشتباه من أنه وُلد من غير أب، وأنه باق على الدوام مما يُرَوّج لفكرة شائبة الألوهية فيه، خير لنا أن نرى الرأي الذي يقول إن عيسى مات، وإنه انتهى، وإنه كغيره من الأنبياء لا يحيا إلا بروحه فقط، حياة كرامة وحياة رفعة الدرجة./ وأنتهي من هذا الكلام إلى أني أرى من الآيات التي أقرؤها في الكتاب أن عيسى مات، وأن موته حق، وأن موته كسائر النبيين].

تفسير المراغي: (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟) أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي ولم يكتب لأحد منهم الخلد. أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تقلبوا على أعقابكم ...والخلاصة ... إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.

قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجّار ص 423 [والذي أختاره أن عيسى عليه السلام قد أنجاه الله من اليهود، فلم يقبضوا عليه ولم يقتل ولم يصلب، وأن الوجه الثاني وهو أن المراد من الآية أني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك. وأن الآية كناية عن عصمته من الأعداء هو الوجه الوجيه الذي يجب أن يصار إليه، لأنه المتبادر من المقام والذي يحقق إحباط الله لتدبير أعدائه كما قال تعالى (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)].

 

هل (متوفيك) تعني الموت في المستقبل البعيد؟

 الأرجح والأقرب أن الله أخبر عيسى أنه (متوفيه) لسبب بسيط واضح: وهو أن الله قصد إعلام عيسى أنه (مميته) الآن أو بعد وقت قصير (ساعات أو أيام قليلة). أي كأن الله يقول لعيسى قد حان وقت موتك. وهذه خطة من الله مضادة لخطة الذين أرادوا قتله [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ] لكي لا يتمكنوا من قتله وصلبه. فالقصد هو إخبار عيسى وإعلامه أنه سيموت الآن أو بعد قليل، ثم بعد موته سيرفع الله جسده الميت إليه (لكي لا يحصل عليه العدو فيتشفوا بالتمثيل بالجسد وصلبه).

المعنى البسيط الواضح هو أن الله قال لعيسى لن آذن لهم أن يقتلوك، لذلك سأميتك الآن. وأيضاً لن أسمح لهم أن يصلبوا جسدك الطاهر الطيب، أو حتى يلمسوه بأيديهم الآثمة الرجسة، لذلك سأرفعك بجسدك الميت إليّ [وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (55) آل عمران].

 

لماذا يقول النصارى أن المسيح حي؟

النصارى غلوا في المسيح [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ (171) النساء] حتى جعلوه (إلهاً). فهو عند بعضهم (ابن الله) وعند آخرين (ولعلهم الأكثرية) هو الله نفسه. ولو اعتقد إنسان أن المسيح إلهاً، فمن الطبيعي أن يعتقد أيضاً أن المسيح يقهر الموت. فمن اعتقد أن المسيح إله، فلابد أن يعتقد أيضاً إنه يقدر أن يقوم من الموت ويعود للحياة[7].

وأما المسلمون فلا يعتقدون أن المسيح إله. المسلمون يعتقدون أن المسيح بشر (كغيره من الأنبياء والناس). ولكن الرواة القدماء نقلوا معتقد أهل الكتاب [الذين يعتبرون المسيح إلهاً، وبالتالي فمن المنطقي عندهم أن يحيا ويقهر الموت] دون أن ينتبهوا أنه يناقض معتقد المسلمين [الذين يعتبرون المسيح بشراً كغيره من الناس، وبالتالي فليس من المنطقي عند المسلمين أن يختلف المسيح عن غيره من الناس فيظل حياً إلى الآن فلا يموت]. فالرواة كأنهم غلوا في المسيح كالنصارى وهم لا يشعرون. الرواة كأنهم ساووا بين عالَمين مختلفين: عالَم النصارى وعالَم المسلمين. وهذا خطأ فادح ولن يُبنى عليه إلا الخطأ.

الذي يظل حيّاً بعد موته حسب القرآن هو ذلك الإنسان الذي يُقتل في سبيل الله. وأما المسيح فلم يُقتل أصلاً.

 



[1] تفسير السمرقندي والوجيز للواحدي:فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعني: رفعتني إلى السماء/ تفسير السمعاني :فَلَمَّا توفيتني} أَي: رفعتني/تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين والوسيط للواحدي: فلما توفيتني} (وفاة الرفع إلى السماء)/ تفسير الثعلبي والبغوي: تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني إلى السماء وأنا حيّ/ / زاد المسير في علم التفسير: تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ «3»، أي: رفعتني إلى السماء من غير موت 

[2] تفسير الطبري : وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ. ذكر من قال ذلك: ...عن ابن عباس قوله: "إني متوفيك"، يقول: إني مميتك/ تفسير الراغب الأصفهاني: وقيل: إن الله تعالى نفى أنه صلب كما زعموا، فإنه تعالى رفعه ثم أماته / زاد المسير في علم التفسير : وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: إني رافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، هذا قول الفراء، والزجاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته/تفسير الرازي : متوفيك أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق]/التحرير والتنوير لابن عاشور: وقوله: إني متوفيك ظاهر معناه: إني مميتك، ... فيقال: توفاه الله أي قدر موته، ويقال: توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ... وأصرح من هذه الآية آية المائدة: «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» لأنه دل على أنه قد توفي الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له ... فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه: إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية «قال مالك: مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة» قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» :«يحتمل أن قوله: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز».

[3] [تفسير الطبري : عن وهب ... قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه]

[4] هذا يشابه اعتقاد النصارى أن المسيح مات (على الصليب) ثم قام من الأموات (في قبره) [تفسير الطبري: عن ابن إسحاق قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياهُ الله]

[5] تفسير الطبري: ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.

تفسير الطبري: فقال بعضهم:"هي وفاة نَوْم"، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنِيمك ورافعك في نومك. ذكر من قال ذلك:...قوله:"إني متوفيك"، قال: يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه = قال الحسن: قال رسول الله لليهود: "إن عيسَى لم يمتْ/ فمعنى قوله :"إني متوفيك ورافعك"، أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت/:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت/ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ...:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا،  

[6] مثل صلب الحجاج لجثة ابن الزبير [مجموع الفتاوى: بعث إليه الحجاج بن يوسف فحاصره .. حتى قتل ثم صلبه/ البداية والنهاية: ثم تكاثروا عليه حتى قتلوه ... ثم صلبه الحجاج منكسا]/ أنساب الأشراف للبلاذري: الكرماني ... فقتله الحارث، وصلبه نصر وعلق معه سمكة/ تاريخ دمشق لابن عساكر: وكان يوجد في القبر العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا ... فضربه بالسياط وهو ميت وصلبه أياما/ تفسير الثعلبي: وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه/ الفروع وتصحيح الفروع: ومن قتل وأخذ المال تحتم قتله ثم صلبه/ تاريخ الطبري: فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته/ تاريخ الإسلام: حتى أسره، ومات فِي حبْسه فسلخ جلدّه وحشاه تِبْنًا، ثمّ صلبه/ البداية والنهاية: ثم قتله البساسيري بعدما شهره، ثم صلبه معلقا بشدقيه/ النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة: أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفراً ثم صلبه مدة وقطعت أعضاؤه وعلقت بأماكن، ثم بعد مدة أنزلت/ تاريخ دمشق لابن عساكر: فخرج زيد ... حتى قتل من يومه .. فأخذه رجل في بستان له ... ودفنه وأجرى عليه الماء قال وغلام له سندي في بستان له ينظر فذهب إلى يوسف فأخبره فبعث فاستخرجه ثم صلبه/ العقد الفريد: فقيل له: إن زيدا دفن في حمأة. فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام، ثم صلبه في سوق الكناسة / أنساب الأشراف للبلاذري:  وأتي برجل اغتصب امرأة نفسها فضربه بالسياط حتى مات، ثم صلبه على باب المرأة/ أنساب الأشراف للبلاذري: فضربه حتى مات ثم صلبه/ نفح الأزهار في منتخبات الأشعار: وقتله بين أرجل الفيلة ثم صلبه/

[7] وهذا يذكرنا بأساطير الشعوب الوثنية القديمة التي ذكرت أن الإله الذي مات (مثل بعل أو أوسير)، عاد للحياة بعد موته.

حامد العولقي