هل اسم بلقيس من كلمة بلق؟
البلق[1] هو الرخام[2]. وحجر
البلق موجود بكثرة فيما بنته ممالك اليمن القديمة
(سبأ
وقتبان وحضرموت ومعين وأوسان وحِمْيَر) من معابد ومصانع وقصور وصروح
وسدود ومحافد وتماثيل وأسوار وأعمدة ومنشآت عمرانية متنوعة. كما كتبوا
كثيراً من نقوشهم إن لم تكن أكثرها، على أحجار البلق وصنعوا منه كثيراً من
تماثيلهم. وجاء ذكر كلمة (بلق) في العديد من النقوش. وعلى هذا فيحتمل أن
ملكة سبأ لقبت باسم يدل على هذا البلق، أو نُسبت إليه واتصفت به، بمعنى
أنها صاحبة هذا العمران الحجري (الذي يكثر فيه الرخام أو البلق) أو أنها
صاحبة هذه المصنوعات المتنوعة المزخرفة المبرقشة التي تبرق وتبلق. فكأن
اسمها بلقيس أو بلقس يعني (ذات البلق) أو (البلقى) أو (البلقية) وما شابه.
وحرف السين في (بلقس) إما تصحيف لحرف، أو أجازت اللغة إضافته كما حدث مع
كثير من الكلمات في العربية.
فتسمية بلقيس قد تكون من جذر
(بلق). فلعل الأخباريين نسبوا كل ما
بنته وصنعته شعوب وممالك اليمن القديمة إلى ملكة سبأ
(الممثلة
الأولى لحضارة سبأ). فأصبح كل ذلك البلق والبريق
والزخرفة الذي امتلأت به قصورهم ومعابدهم ومنشآتهم وصناعاتهم، منسوباً إلى
ملكة سبأ
(رمز حضارة
سبأ). سواء كان ذلك البلق هو الحجر
الأملس الملون الذي شيدوا به مبانيهم أو كل ما بلق وبرق من زخارف وألوان من
مواد مختلفة مما زينوا به منشآتهم أو مصنوعاتهم. ولعل الأخباريين أرادوا
وصف كل هذا العمران السبئي ومن ضمنه ذلك البناء الحجري
(محرم
المقه)، بما معناه أنه (الأبلق) أو
(بيت البلق) أو (ذو البلق). وهذا مثل تسمية الحصن الشهير حصن الأبلق
بتيماء، والقصرين: الأبلق بدمشق والأبلق بمصر.
ولا يوجد نص صريح من المساند أو
الأخبار أن بيت المقه أو غيره من القصور والمعابد تسمّى بجذر (بلق)، ولكنه
افتراض افترضناه من خلال اسم ملكة سبأ (بلقس، بلقيس) الذي ربما قُصد به ذلك
البناء أو غيره من عمران ظن الأخباريون أن ملكة سبأ هي التي بنته وصنعته.
ثم أصبح كل ما أنشأته ممالك اليمن القديم من بناء وصناعات احتوت على معنى
البلق
(بريق،
تلون، زخرفة، لمعان، ..)، عند الأخباريين فيما بعد
علماً لملكة سبأ التي كأنها هي التي صنعت كل ذلك البلق
[الإكليل -
الهمداني: مما بنت بلقيس/ خلاصة السير
الجامعة: ولقد بنت لي عمتي في مأرب/
تفسير القرطبي: وابتنت بلقيس قصرا في
الصحراء/ تفسير الطبري: وكان العرم فيما ذكر مما بنته
بلقيس/ شمس العلوم: واسأل ببلقيس
وبنيانها/ نهاية الأرب: صفة القصر الذى
بنته بلقيس/صفة جزيرة
العرب : أرض بها غمدان والقليس ...بناهما ذو النجدة الرئيس ... تبع ملك وبنت
بلقيس].
فعلى هذا الافتراض ربما تسمّى
بيت المقه مثلاً، باسم (بلقس وبلقيس)، لأنه بناء رائع ملوّن مصقول فخم
برّاق لمّاع مبرقش. فلعل الناس في ذلك الوقت رأت أحجار وجدران بيت المقه
برّاقة[3] لامعة ملوّنة[4] مبقّعة[5] مزوّقة[6]
(محسّنة،
مقوّمة، مزيّنة) مبرقشة[7] ملساء[8] زجاجية[9]
مصقولة منعّمة منحوتة مسوّاة[10] ممرّدة، أو لأن بعض أحجاره كانت من البلق
والرخام والمرمر والحجارة المشذبة المهذبة الملونة الملساء.
فمثلاً حصن الأبلق بتيماء
والقصران الأبلق بدمشق والأبلق بمصر، سُمّيت بذلك لأنها من أحجار ملونة[11]
مصقولة ملساء أو لأنها من أحجار البلق والرخام[12]. فلعله يجوز افتراض أن
محرم المقه وغيره من قصور سبأ ومنشآتهم، سماه الناس بلقس أو بلقيس لأحجاره
البراقة الزجاجية[13] الملساء أو لأحجار البلق فيه.
ونستطيع أن نعمم ذلك على كل ما
بنته وصنعته حضارة سبأ وممالك اليمن القديم مما فيه معنى البلق
(البريق
والتلون والتبرقش واللمعان والزينة والزخرفة والجمال، ...). فيحتمل أنه لهذا سميت ملكة
سبأ باسم بلقيس، وكأن بلقيس يحوي معنى كلمة بلق الذي قد يصف بريق حضارة سبأ
(هيا
الزجاجات ... لنا من
أرض بلقيس/الأغاني).
[2] تاج العروس: وقالَ
اللَّيْثُ : البَلَقُ : الرُّخامُ./ القاموس: البَلَقُ، .. الرُّخامُ
[3] نلاحظ التقارب في اللفظ
والمعنى بين جذر برق وبلق [المحيط في اللغة:
البَلِقُ .. الذي
بَرِقَتْ
عَيْنُه وحارَتْ/ اللسان: والعرب تقول دابّة أَبلَق
وجبل أَبْرَق وجعل رؤبة
الجبال بُلْقاً].
[4] الصحاح في اللغة - الجوهري
: البَلَقُ: سوادٌ وبياضٌ/ معجم البلدان - ياقوت: الأملح الأبلق في سواد
وبياض./ الفصل في الملل - ابن حزم: البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد
والبياض معا / تحفة المحتاج في شرح المنهاج: فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ
بِالْأَبْلَقِ مَا فِيهِ حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّ
الْمُرَادَ بِالْأَبْلَقِ فِي كَلَامِهِمْ مَا اشْتَمَلَ عَلَى لَوْنَيْنِ
فَلَا يَخْتَصُّ بِمَا فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ
[5] وَرَدَ فِي بَعْضِ
الْأَحَادِيثِ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ
وَبَيَاضٌ وَالْبَقَعُ فِي الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ بِمَنْزِلَةِ الْبَلَقِ
فِي الدَّوَابِّ.
[6] تاج العروس: بَلقَ كِذْبَةً
حَرْشاءَ : صَنَعَها وزَوَّقَها كذا في نَوادِرِ الأَعْرابَ/ تاج العروس:
وفي النوادِرِ : بَنَّقَ فلانٌ كِذْبَةً حَرْشاءَ وبَلَّقَها: إِذا
صَنَعَها وزَوَّقَها.
[7] نلاحظ التقارب اللفظي بين
كلمتي بلقس وبرقش، وتقارب معناهما. ومثلهما برق وبرج
[8] المحيط في اللغة:
والرَّكِيَّةُ المُبَلَّقَةُ: هي التي تَسْهَل فَيُجْعَلُ لها تَوابِيْتُ
من ساجٍ فيبلِّقُونَها إياها.
[9] القاموس: البَلَقُ، ..
وحِجارةٌ باليَمنِ تُضيءُ ما وراءَها كالزُّجاجِ.
[10] القاموس: البَلُّوقةُ،
..والأرضُ المُسْتَوِيَةُ اللَّيِّنَةُ.../ القاموس: والتَّبْلِيقُ:
إصْلاحُ البِئرِ السَّهْلَةِ بِتَوابِيتَ من ساجٍ. ورَكِيَّةٌ مُبَلَّقَةٌ:
مُصَلَّحَةٌ./ المحكم والمحيط الأعظم - ابن سيده : والبلوق، والبلوقة، ..
قيل: هي ما استوى من الأرض.
[11] تاج العروس: الأبْلَقُ
الفَرْدُ : حِصنٌ للسَّمَوْألِ ..وإِنَّما قِيلَ له : الأَبْلَقُ لأَنَّهُ
كان في بِنائِه بياضٌ وحُمْرَة وقِيلَ : لأَنه بني من حِجارَة مُخْتَلفةِ
الألْوان.
[12] معجم البلدان: أبرهة ...
بنيان هذه الكنيسة ... وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع
والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس.
[13] الأغاني - أبو الفرج
الأصبهاني : وقد هيا الزجاجات ... لنا من
أرض بلقيس/ معاهد التنصيص على
شواهد التلخيص - العباسي : وقدْ هَيَّأَ زُجَاجَاتٍ ... لنا من أَرْضِ
بَلْقِيسِ