لماذا غائط الإنسان ليس حقيقة؟
كما هو معروف، أجمع علماء اللغة أن كلمة (غائط)
في حقيقتها وأصلها هي بمعنى (غائط الأرض)، وأن استعمال الناس لكلمة (غائط)
بمعنى (ما يخرج من دبر الإنسان)، فليس ذلك إلا خطأ شائعاً أو مجازاً وكناية
عن الأصل الحقيقي (غائط الأرض). ولذلك قالوا أن العبارة مثل (جاء فلان
من
الغائط) هي في حقيقتها وأصلها الحرفي بمعنى (جاء فلان
من الصحراء). وكأنهم
يقولون إذا أردنا الدقة والحقيقة اللغوية (فلا يوجد) مسمى (غائط) إلا الذي
معناه: (صحراء، خبت ، منخفض أرضي، وادي، ...) فقط. وأرجع ابن القوطية (ت:
367 هـ) أصل الغائط (ما خرج من الدبر) من الغوط في الماء[1]. وهذا اجتهاد
وفهم من أهل اللغة وليس بالضرورة صحيحاً.
وكما رأينا في موضوع (الغائط ما خرج من الدبر)
أن العرب (عامة الناس والفقهاء والمحدثون ومعاجم اللغة)
يستعملون كلمة
الغائط بمعنى (ما يخرج من الدبر). ومع ذلك يصر اللغويون والمفسرون والفقهاء
أن هذا مجرد استعمال عرفي خاطئ شاع بين الناس.
والسؤال : لماذا لا ينطبق (الغائط) بمعناه
الحقيقي على غير الأرض؟ فالغائط من فعل (غاط)
الذي بمعنى (دخل، غاب، غار،
غمض، توارى، غاص، غاض، خفي، ...). كما قد يكون جذر (غاط) من نفس الأصل
اللغوي لجذر (غطى) أي للغطاء والتغطية، فالذي (غاط) يبدو كالذي غيّبه غطاء.
والغائط (غائط الأرض) استحق اسمه لأنه غاط [سمي
غائطا
لأنه غاط في الأرض أي دخل فيها][2]. فلماذا الذي (غاط) في بطن
الإنسان (وهو الفضلات) لم يستحق اسم الغائط؟
هل تستعمل اللغة جذر غاط لغير الأرض؟
الجواب نعم، حيث فعل غاط لا يستعمل فقط لغائط
الأرض، بل لكل شيء [غاط في
الشيء ... بمعنى دخل][3]. فيقال [غاط في
الماء][4]، أي غاص. ويقال [وقع في
غوطة][5]، وكأنه غاط (دخل وغاب) في مشكلة
ابتلعته، أو وقع في أمر (غاب فيه وضاع وغرق). ويقال (إناء غويط)[6].
ويستعمل في معنى الدخول في الجماعة (غاب فيهم)[7]. وفي دخول الأنساع في
البعير (غاطت)[8]، أو دخول الحبل في
أنفه (غاط)[9] . ويستعمل في
التقام
الطعام أي بلعه وإدخاله البطن (تغويط، غوط)[10]. والمثل (غاط بن باط) من
معنى دخل وغاب في الأمر حتى ضاع فيه[11]. ودخول القدم في
الرمل وغوصها فيه
(هذا رمل تغوط فيه الأقدام/ الصحاح). تعميق
البئر (اغوط بئرك)[12]،
والشيء عموماً[13]
فنرى أن فعل (غاط) لا يختص فقط
بمثل (غاط في
الأرض). وإذن يجوز أن يكون الغائط (بمعناه الحقيقي) هو ما غاط في بطن
الإنسان من فضلات (ثم تخرج من الدبر).
ولهذا السبب سمّى الناس ما كان داخل
بطن الإنسان غائطاً (غائط الإنسان)، لأن هذه الفضلات التي في الأمعاء هي
داخلة وغائبة وغائطة في البطن. ولا علاقة لذلك لما كان داخل الأرض (غائط
الأرض). وقول أن غائط الأرض فقط هو الأصل والحقيقة، فليس إلا نظرية اعتقدها
أهل اللغة، وقد استعملت اللغة جذر غاط في أمور أخرى عديدة.
لفظ الغائط بالآية يمكن أن يكون كلمة (حقيقية)
لغوياً بمعنى: (العمق، الداخل، الغائب، الباطن، الغائص، الكامن، الغامض)
بالنسبة لجسم الإنسان، وليس للأرض كالوادي والصحراء وما غاط منها أو فيها.
فقد يكون الغائط هو ما غاط (بجسم الإنسان) من فضلات، ولا علاقة له هنا بما
غاط (من الأرض أو فيها). ولهذا أطلقت اللغة على ما خرج من (داخل) الإنسان
اسم الغائط (لأنه كان غائطاً في بطن الإنسان).
فالذي غاط في الإنسان
(حقيقة)، كالذي غاط من الأرض أو فيها.
ويبدو أن العرب سمّت ما خرج من داخل الجسم
(غائطاً) لأنه خرج من (الداخل والباطن)، أي من الأمعاء. وكأن سؤال: (ما)
خرج من بطن الإنسان؟ جوابه: ما كان (غائطاً) فيه. (فالخارج) من الإنسان هو
(ما كان داخل البطن)، أو بتعبير العرب: ما كان (غائطاً) بالبطن، أو ببساطة:
(الخارج) هو الغائط. كذلك لعل تسمية الغائط من موضعه بالأمعاء (الغليظة)،
إذ هو هناك في موضع غويط (عميق)، كامن فيه غائب غير ظاهر بالنسبة إلى
المخرج (الذي سيظهر منه).
فلا فضل لغوي لغائط (الأرض) على غائط (الإنسان)
أو على غائط (غيرهما)، لأن جميعها من أصل لغوي واحد، وهو معنى (ما بالداخل)
وما بالبطن وما بالجوف (لأي شيء).
ولفظ (الغائط) في هذه الآية قد لا يكون كناية.
فكون الغائط (معنى لغوياً حقيقياً) بالنسبة للأرض (داخلها وما غاب منها
وفيها)، لا ينفي كون الغائط (معنى لغوياً حقيقياً) بالنسبة لجسم الإنسان
(ما دخل وغاب فيه وتوارى من فضلات سيتخلص منها) أو لجسم غيره، أو لما غاط
بأي شيء.
[1]
ويبدو أن ابن القوطية (ت: 367 هـ) أرجع أصل الغائط (ما خرج من الدبر)، من
الغوط في الماء [تهذيب كتاب الأفعال لابن القوطية لمؤلفه ابن القطاع: غاط
في الماء غَوطاً
وغَيطا دخل
فيه ومنه الغائط/ المصباح المنير – الفيومي: وقال ابن القوطية غَاطَ في
الماء غَوْطًا دخل فيه ومنه الغَائِطُ]. وفي [كتاب الأفعال لابن القوطية :
وغاط في الشيء غوطا دخل ومنه الغائط]، أصل الغائط عام.
[2]
تهذيب اللغة : وقال ابن شميل: الغائط: الأرض الواسعة الدعوة، سمي غائطا
لأنه غاط في الأرض أي دخل فيها/ غريب الحديث لابن قتيبة : ومنه قبل قيل
للمطمئن من الأرض: غائط كأنه داخل./ اقتطاف الأزاهر والتقاط الجواهر : ومنه
للمطمين من الأرض: غائط لأنه يستر./ عمدة القاري : وكل ما انحدر من الأرض
فقد غاط
[3]
القاموس: الغَوْطُ : دُخولُ الشيء في الشيء/ اللسان: غاطَ في الشيء يَغُوطُ
ويَغِيطُ دخل فيه/ المعجم الوسيط: غاط في الشيء غوطا دخل فيه وغاب/ غريب
الحديث لابن قتيبة: ومنه يقال: غاط يغوط، إذا دخل في شىء واراه./ شمس
العلوم : الغَوْط الدخول/ تاج العروس : غاط في الشيء يغوط فيه ويغيط بمعنى
دخل
[4]
تهذيب اللغة – الأزهري: وغاط فلان في الماء يغوط إذا إنغمس فيه/ القاموس:
تَغاوطَا في الماء: تَغامَسَا./ تهذيب اللغة – الأزهري: وهما يتغاوطان في
الماء: أي يتغامسان، ويتغاطان فيه/ المصباح المنير – الفيومي : وقال ابن
القوطية غَاطَ في الماء غَوْطًا دخل فيه./
[5]
المحيط في اللغة: ووقع في غوطة: أي في أمر شديد. والغاط: مثل الغوط
[6]
المعجم الوسيط : (الغويط) من الْأَشْيَاء الْبعيد القعر ... وإناء غويط
[7]
القاموس المحيط : والغاط: الجماعة. ويقال:
غط غط: إذا أمرته أن يكون مع
الجماعة إذا جاءت الفتن. / العباب الزاخر: يقال غط غط: إذا أمرته أن يكون
مع الجماعة إذا جاءت الفتن، وهم الغاط يقال: ما في الغاط مثله: أي في
الجماعة.
[8]
المحيط في اللغة - الصاحب بن عباد: غاطَتِ الأنْسَاعُ في جَنْبِ
البَعِيرِ: دَخَلَتْ فيه./ العباب الزاخر - الصاغاني :
غاطتِ الأنساعُ في
دف الناقة: إذا تبينتْ آثارها فيه. / المحكم والمحيط الأعظم:
وغاطت انساع
الناقة تغوط غوطا: لزقت ببطنها فدخلت فيه.
[9]
العباب الزاخر - الصاغاني : وغاطَ الحبلُ في مخزمها: إذا غاب فيه/ تاج
العروس : ستحطم سعد والرباب أنوفكم ... كما غاط في أنف القضيب جريرها
[10]
لسان العرب : الغوط: الثريدة. والتغويط: اللقم منها، وقيل: التغويط عظم
اللقم./ المحيط في اللغة - الصاحب بن عباد: غَوَطَ الرَّجُلُ: لَقِمَ./
القاموس المحيط :والتغويط: اللقم، أو تعظيمه/ العباب الزاخر - الصاغاني:
غوط تغوطا: أي لقم.
[11]
مجمع الأمثال : غَاطُ بن بَاطٍ، يَقَال: غَاطَ في الشَيء يَغُوط
ويَغِيِطْ، إذا دخل فيه، ويقَال: هذا رَمْل تَغُوط فيه الأقدام، أي تغوص،
وباطٍ: مثل قاض، من بَطَا يَبْطُو، إذا اتسع، ومنه الباطنية لهذا الإناء.
يضرب للأمر الذي اختلط فلا يُهتدى فيه، ويضرب للمخلِّطِ في حديثه إذا اردوا
تكذيبه.
[12]
تاج العروس : أغوط بئرك، أي أبعد قعرها./ العباب الزاخر:وبئر غويطة:
بعيدةُ القعر/ القاموس المحيط : والتغويط: ... وإبعاد قعر البئر.
[13]
المعجم الوسيط : (الغويط) من الْأَشْيَاء الْبعيد القعر/ الجيم - أبو عمرو
الشيباني: حَفَره حتى أغاطَه أي أعمَقَه.
حامد العولقي