كلمات أعجمية صارت عربية فصيحة
بداية لا أظن أن كل هذه الكلمات معرّبة، ولكن أكثرها كذلك. وأظن أن
أكثر هذا التعريب (الذي ذكرته المعاجم) حدث بعد الإسلام [الراموز على
الصحاح: ونعتبر أن تأثر العربية باللغات الأجنبية قبل الإسلام كان قطرة في
محيط التأثر بعد الإسلام]، وأما التعريب في الجاهلية فهو أيضاً كثير (كشفته
النقوش السامية من العراق والشام، أو نقوش مصر)، ولكن لم تعرفه المعاجم
لأنه قديم جداً. ونلاحظ أن أكثر
المعرّبات بالمعاجم منسوبة للفارسية [تهذيب اللغة: وَمن كَلَام الْفرس مَا
لَا يُحصى مِمَّا قد أَعْرَبَتْهُ العربُ]. وهذا بسبب السيطرة الثقافية القوية للعراق
(مركز الخلافة). وأريد أن أقول شيئاً غريباً وهو أن الكلمات الأعجمية التي
تسربت إلى اللغة العربية الفصحى (سواء التي ذكرتها المعاجم أو التي لا
تعرفها)، قد تشكّل نصف اللغة على الأقل، إن لم يكن أكثر بكثير.
فجزيرة العرب واسعة كبيرة وسكانها أقوام شتّى تتباعد مواطنهم عن بعضها
وتتقارب، ويجاورون (سلما وحربا) شعوباً شتّى (قبل الاسلام) كالفرس والهنود
والحبش والعراق والشام ومصر والروم واليونان ...الخ. فما ذكرته القواميس
ليس إلا غيض من فيض وليس إلا رأس جبل الجليد وما خفي عن أهل اللغة كان
أعظم.
وأحاول قدر الإمكان أن أتجنّب التعريبات في المئة سنة الأخيرة (أكثرها
كلمات أوربية)، لأنها كثيرة جداً. وأكثر الكلمات التي تعربت في الجاهلية هي
من شعوب قديمة راسخة في الحضارة (على مستوى العالم في زمانهم)، كالعراق
والشام ومصر. والشعوب العربية التي قامت بالتعريب هي تلك التي جاورت العراق
والشام ومصر (أظن أن قبائل قضاعة هي أكثر من عرّب كلمات عراقية شامية
مصرية). وقبائل سبأ ومعين لعبت دوراً كبيراً في التعريب من هذه الشعوب
الحضارية السابقة بسبب حضارة سبأ من جهة وبسبب كثرة أسفارها التجارية نحو
الشام والعراق ومصر من جهة أخرى. وكذلك قبائل اليمن عموماً (خاصة سواحل
جنوب جزيرة العرب) وعمان والبحرين عرّبوا كلمات من شعوب الهند والسند وفارس
والحبش (من خلال الأسفار والتجارة والحروب). وأما بعد الإسلام فحدث مالم
يكن في الحسبان (ليس له مثيل في تاريخ العالم اللغوي). فبعدما تكلم كثير من
أبناء الشعوب (غير العربية) اللسان العربي (خاصة الذين أسلموا) بسبب سيطرة
اللسان العربي، أدخلوا الكثير من ثقافاتهم اللغوية (من ألسنتهم الأصلية)
إلى اللغة العربية [جمهرة اللغة" وَقد دخل فِي عَرَبِيَّة أهل الشَّام كثير
من السُّريانية]، هذا غير ما عرّبه العرب أنفسهم من لغات تلك الشعوب.
وملاحظة أخيرة مهمة في فهم سر كثرة الكلمات الاعجمية في لسان العرب، وهي أن
العرب (سكان جزيرة العرب في الجاهلية) هم شعوب حديثة نسبياً. إذ يبدو أن
أصل هذه الشعوب العربية القديمة كان من نواحي الشام (كمناطق قوم نوح وعاد
وثمود ومدين وسيناء أي مناطق أقدم الرسالات) ثم أخذت تهاجر نحو الجنوب منذ
بضعة عشر آلاف سنة خلال أزمنة مختلفة، ثم عبر هذا الزمن الطويل
تخالطت هذه الشعوب في جزيرة العرب (حربا وسلما) وتقاربت ألسنتها وثقافاتها
وعاداتها. ونلاحظ من النقوش العربية القديمة كالحميرية (بلهجاتها)
والثمودية والصفوية واللحيانية وغيرها، أن سكان جزيرة العرب القدماء لم
يتحدثوا الفصحى (كل النقوش العربية ليست
فصيحة)، كذلك نلاحظ أن هذه النقوش العربية القديمة فيها بعض التشابه مع
الكنعانية كاستخدام أداة التعريف في نقوش شمال الجزيرة (مثل: هجّمل بمعنى
الجمل)، أو كما في بعض كلمات النقوش الحميرية (مثل: عدى بمعنى إلى، ونفل
بمعنى سقط، واحت بمعنى إحدى، أو عِم بمعنى مع) كما كانت معظم نقوش الجزيرة
تنطق كلمة "أنثى" بصورة "أنثت"، بالتاء (كما كثير من اللغات السامية) وكل
نقوش الجزيرة تنطق صلم (باللام) أي صنم، و"ذان" بالنون أي "ذا، هذا"، مثل
الكنعانية. وطبعاً هذه النقوش تعتبر حديثة جداً بالنسبة لكلام شعوب جزيرة
العرب الأقدم، أي أن الكلام القديم (قبل النقوش) هو أكثر قرباً من كلام
نواحي الشام (أي أن أساس اللغة العربية وكلماتها الأقدم ليس من جزيرة
العرب). ولكن مع الزمن تطورت اللهجات العربية القديمة واقتربت من الفصحى.
فليت شعري كيف كانت ألسنة سكان جزيرة العرب زمن إبراهيم مثلاً؟ أظن والله
أعلم أنها كانت غير بعيدة عن اللسان الكنعاني. فالخلاصة أن أكثر الكلمات
العربية لم تنشأ في جزيرة العرب، وإنما خارجها.
حامد العولقي